كيف نقرأ الأخبار في زمن التعتيم الإعلامي

نشرت وكالة الأخبار العراقية، يوم الثلاثاء 14 ديسمبر 2004، إضافة إلى وكالات الأنباء العربية والعالمية، خبراً يقول "وصل بغداد الجنرال ريتشارد مايرز، رئيس هيئة الأركان للجيوش الأمريكية..." وإلى هنا يبدو هذا خبراً طبيعياً لا يدعو للإستغراب، فالزيارة تأتي في إطار الواجبات العسكرية التي يقوم بها مثل هكذا مسؤول بغرض تفقد قطعاته وسير العمليات واحتياجات المقاتلين ... إلخ.
ولكن الجديد في هذا الخبر هو الجزء المكمل له حسب ما نشر، ويقول نصاً "... يرافقه عدد كبير من الفنانين والرياضيين والمشاهير"، حيث إن هذه هي المرة الأولى منذ الإحتلال الأمريكي للعراق يصطحب فيها زائر عسكري أو مدني على مستوى عالي هذا النوع الخاص من المرافقين في زيارته لتفقد جيوشهم في المواقع العسكرية على أرض المعركة... وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا الفعل قد تزامن مع حلول أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، كعادة أمريكية للإحتفال في مثل هذه المناسبات، علماً بإن هذه الحادثة لم تحدث في نفس المناسبة في العام الماضي...

إلا إن هذا التفسير ينطوي على نصف الحقيقة، أما النصف الثاني والأهم في الحقيقة هو التالي، أولاً: إن الإدارة الأمريكية لم تلجأ إلى مثل هذا الإسلوب في تاريخها العسكري إلا لمرات قليلة، وذلك عندما يكون جنودها في حالة معنوية هابطة، كما حدث في الحرب الفيتنامية... وثانياً، كانت هذه الزيارات تزداد كثافة وتنوعاً لإضفاء أجواء مبهجة على جبهات القتال والمعارك عندما تكون القوات الأمريكية على أبواب الهزيمة وخسائرها متصاعدة ومحبطة... فيا ترى هل هذه الزيارة وبهذا الإسلوب له علاقة بالصعوبات التي تواجهها قوات الإحتلال في معاركها ضد المقاومة العراقية منذ الشهر الماضي، والذي أطلق عليه "الشهر الدامي"!... علماً بإن هذه المعارك لا تزال مستمرة في الفلوجة وفي مختلف المدن العراقية بتصاعد ودون توقف، والخسائر البشرية والمادية في زيادة بمعدلات عالية، وكان من نتائجها هروب المئات من الجنود الأمريكان من أرض المعركة إلى خارج العراق، إضافة إلى عصيان وحدات عسكرية بكاملها عن تنفيذ الأوامر لنقل المؤن والعتاد بين مدينة وأخرى، مما أضطر قياداتها لنقل هذه المواد عبر الهليكوبترات تحسباً لكمائن المقاومة المحكمة...
ويبدو إن هذه الزيارة يراد منها رفع معنويات جنودهم، فإنها في الحقيقة سترفع معنويات المقاومة العراقية وستعزز من آمال العراقيين في النصر القريب، لأنها مؤشرات واضحة لما تكبدته قوات الإحتلال من هزائم في مختلف المدن العراقية وعلى وجه الخصوص في الفلوجة...
ومثل هذه الزيارة ايضاً تعطينا من الأخبار كل ما حاولت إدارة الإحتلال في العراق أن تعتم عليه إعلامياً، فما كنا غير قادرين على قراءته على الواجهات الإعلامية وفي صفحات الأخبار والفضائيات التي تتعمد إخفاء الحقائق أو تشويهها، نستطيع أن نقرأه من خلال الخلفيات الإعلانية كما في الإعلان عن هذه الزيارة التي لها مؤشراتها المعروفة في تاريخهم الحربي والعدائي الطويل...
ولكن ليس هذا كل شئ، فبالمقابل وعلى الجهة الأخرى البعيدة، فلقد تزامنت هذه الزيارة أيضاً مع احتجاجات وفعاليات وتظاهرات تعرضت لها الإدارة الأمريكية في الشهور الأخيرة، ومع بدء وصول أعداد متزايدة من نعوش الجنود إلى أمريكا... ومن ضمن تلك الفعاليات هو بدء تشكّل تجمعات تضم عوائل الجنود لنشر قناعاتها بإن أبنائهم يقتلون في حربٍ ليس لها مبرر أو ضرورة ، وإن ما قيل عن ذرائع لهذه الحرب كانت كاذبة... ومن ضمنها أيضاً تظاهرات جماهيرية واسعة في مدن أمريكية مختلفة، تم التعتيم عليها إعلامياً، لأنها تطالب بإيقاف هذه الحرب المجنونة وعودة الجنود لعوائلهم... إضافة إلى الاستعدادات التي بدأت لتنظيم أضخم مظاهرة جماهيرية ستتوجه في مارس القادم، بقيادة الناشط السياسي ووزير العدل السابق، رامزي كلارك، والعديد من الشخصيات الأمريكية والعالمية من كُتّاب وشعراء ومفكرين ومشاهير، إلى البيت الأبيض، تحت شعار اسقاط الإدارة الأمريكية سلمياً...
كل هذا انعكس على أداء الإدارة الأمريكية وتفكك الإجماع الظاهري لهذه الإدارة على هذه الحرب العدوانية، إضافة إلى بوادر صعوبات جديدة يواجهها الرئيس بوش للحصول على تمويل إضافي لهذه الحرب بما يعادل 75 مليار دولار... حيث أشارت مصادر البنتاجون في مناسبات متعددة إلى إن تكلفة الحرب تبلغ 1,5 مليار دولار في الأسبوع والواحد وليس في الشهر الواحد...
ترى هل سيتطابق الاستنتاج الذي وصلنا إليه مع واقع الحال بإن أمريكا باتت على أبواب هزيمة نكراء في العراق...