كيف نصنع مفاهيمنا التنموية

بعد مرور ما يزيد على عشرة أعوام على إصدار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتقاريره السنوية حول التنمية البشرية، التي تم وضعها على أسس ومعايير ومفاهيم نمطية وموحدة لقياس عملية التنمية في جميع أقاليم العالم على السواء، بعد كل تلك التقارير، جاء تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول للعام 2002 ليذكر بأنه رغم كل ذلك الحراك التنموي الذي إستمر لفترة عقود من الزمن في المنطقة العربية، إلا إنه لا زال هناك الكثير مما ينبغي عمله لإعلاء صوت الناس في الشأن العام وتوفير خيارات اجتماعية وفرص اقتصادية للأجيال الحاضرة وأجيال المســتقبل في العالم العربي لبناء مستقبل أفضل لنفسها ولأسرها... مما أعطى مؤشراً واضحاً إلى وجود أخطاء جذرية في مفاهيم التنمية في الفترة السابقة... تلك المفاهيم التي لم تتمكن من تغطية جميع جوانب الحياة ولم تسمح بتوسيع قاعدة الخيارات والفرص للأجيال القادمة، أي باختصار، لم تتمكن من تحقيق التنمية المستدامة.


وهكذا يعد تقرير التنمية الإنسانية العربية مثابة دعوة للرجوع إلى تقييم مفاهيمنا التنموية السائدة، وتطبيقاتها ونتائجها من خلال التجربة التنموية العربية في الفترة الماضية... تلك الفترة التي بدأت بالإعلان عن نفسها مع بداية الربع الأخير من القرن الماضي، وبدأت تتضح نتائجها، سلباً أو إيجاباً، مع عقد التسعينيات من نفس القرن، من خلال ما تم نشره من تقارير...
فتح تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، آفاقاً جديدة للتفكير في مفهوم جديد للتنمية أقرب للمفهوم الإجتماعي الإنساني منه للمفهوم الإقتصادي البحت الذي كان شائعاً في الفترة الماضية، من حيث كون التنمية ليست فقط مجرد عملية إقتصادية يُعنَى بها الإستخدام الكفؤ للموارد المتاحة بهدف زيادة الإنتاج السلعي، ذلك التعريف الذي كان يقيّد عملية تقييم نجاح أو فشل العملية التنموية بمؤشرات النمو الإقتصادي وحدها. فجاء التقرير ليعطي التنمية الإنسانية تعريفاً مركّباً وأكثر شمولاً، فعرّف التنمية على أنها "عملية توسيع الخيارات" التي يمارسها الإنسان كل يوم في المجال الإقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي... "وحيث إن الإنسان هو محور تركيز جهود التنمية، فإنه ينبغي توجيه هذه الجهود لتوسيع نطاق خيارات كل إنسان في جميع ميادين سعيه"، مع التأكيد على إن التنمية الإنسانية هي "عملية ومحصلة"، أي وسيلة وهدف في نفس الوقت، "فهي تهتم بالعملية التي يجري من خلالها توسيع الخيارات، وتركز على النتائج التي يتم تعزيزها". وهنا يجب أن لا ننسى بأن هذا التعريف هو ما كان يدعو إليه المثقفين والاجتماعيين العرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، من حيث إن التنمية تعد عملية مركّبَة... تستهدف المجتمع بكل مكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية بشكل متكامل، مما يجعلها نسق فكري أخذ تغذيته الأولى، ولا زال، من مفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية، كما تستفيد أبحاث هذه النظريات والعلوم بتلك المفاهيم والتوجهات التنموية.
هذا المفهوم الإنساني للتنمية نقلنا نقلة نوعية إلى أهمية تنمية الدور الإجتماعي للفرد في أبعاده المختلفة وليس في بعده الإقتصادي فقط ، وهذا ما أغفلته نظريات ومفاهيم التنمية البشرية السابقة، التي قامت أساساً على أكتاف الإقتصاديين في مجتمعات غريبة عن بيئتنا العربية، وبعيداً عن أية مشاركة فاعلة وملموسة من نخبنا السياسية والأنثروبولوجية العربية، مما لم يمكنها من تحقيق النجاحات المطلوبة في إيجاد نسق فكري تنموي متكامل يتلاءم مع تلك المكونات الاقتصادية التي زجت إلى مجتمعاتنا... ذلك النسق الفكري القائم على إحترام قيمنا السلوكية الإيجابية ونمط الحياة الخاصة بهذه المنطقة، وبالتالي على إحترام العمق الحضاري والتاريخي لهذه الأمة.


كلمات دالة: