التربية السياسية والمواطنية (1)

هناك شبه إتفاق، بين قطاع كبير من العرب، بمختلف مستوياتهم الثقافية والعلمية، حول ضعف الأداء الوطني للمواطن العربي وسلبيته وذاتيته في ذلك العطاء (إن وجد)، أي إعلاء المصالح الذاتية المباشرة للفرد العربي على عطائه للوطن، والتي في الغالبية تكون مصالح بعيدة عن مصالح الوطن والأمة... ولربما كان واقعنا الخليجي يعطي أكبر مثال على ذلك... من خلال سلوك الفرد الخليجي أو سلوك المثقفين وأصحاب المناصب وأصحاب رؤوس الأموال الهاربة للإستثمار أو للتخزين خارج المنطقة.
فيا ترى هل يمكن إعتبار ذلك حالة طبيعية، وهل الأمم المتحضرة، التي استطاعت بناء حضاراتها العصرية، تعاني من تلك المشكلة الجوهرية؟... مشكلة تدني المواطنية والولاء، التي لا يمكن إلا أن تنخر في أسس بنائها الحضاري، أو بالأحرى هل يمكن أن يقوم أي بناء حضاري لشعب لا يجيد البناء والعطاء والدفاع عن الوطن والولاء له؟...
في بحثي الدائم عن الإجابة على هذه التساؤلات... وقع بين يدي كتاب فلسفي للكاتب اللبناني، ناصيف نصّار، يتناول مفاهيم ومشاكل التربية السياسية للإجابة على ذلك التساؤل المصيري، وهو "متى يصير الفرد في الدولة العربية، مواطناً؟"


يبدأ الكاتب في الفصل الثاني من كتابه بتحليل تلك الفكرة التي وُضِعَ على أساسها برنامج التربية المدنية (للعام 1985) للمرحلة الإبتدائية في وزارة التربية الوطنية في فرنسا، والتي تقول "يُولد الإنسان مواطناً، ويصير مواطناً مستنيراً". ومن خلال التأمل في هذه الفكرة يسترسل الكاتب ويصل إلى ضرورة تعليم التربية المواطنية من حيث وظيفتها الحقيقية في الدولة العصرية. وهنا يفصل الكاتب بين الدولة العصرية والدولة التقليدية من خلال علاقة الدولة بالشعب، ومن حيث كون تلك العلاقة في الدولة العصرية تتميز بعلاقة "مواطنية مباشرة، مكفولة كحق لكل عضو منذ ولادته"، حيث يولد الإنسان مواطناً يتدرج في فهمه وإستيعابه لمضامين هذه المواطنية ومستلزماتها من خلال حياته في أسرته وعائلته ومن ثم في المدرسة وفي محيطه الإجتماعي، إلى أن ينتهي بتكوين شخصيته المستقلة ليصبح مسؤولاً عن نفسه وعن وطنه مسؤولية كاملة.
من خلال تلك الفكرة (الفرنسية)، يصل بنا الكاتب إلى إن المواطنية حق يولد مع ولادة الإنسان وما تلك التربية المواطنية التي يتعلمها الإنسان في مختلف مراحل حياته إلا وسيلة لتنويره ذهنياً وعاطفياً على تلك الحقيقة، مما يؤهله لتبني قضايا مجتمعه على أسس سليمة يملؤها حب الوطن والشعور الكامل بالمسؤولية اتجاهها في أحسن وأسوأ الظروف، من حيث كونه فرداً حراً ومستقلاً ومتساوياً مع الآخرين في الحقوق والواجبات وكائناً له الدور الأساسي في بناء الدولة على جميع الأصعدة.
يصل الكاتب في تحليله إلى إن تجارب تلك الدول التي مرت على عهود مختلفة من الإقطاع والمَلَكِيّة المطلقة والحروب الدينية، أوصلتها للإستقرار على مبدأ أساسي وهو "التفريق بين الإنسان بوصفه مواطناً وبينه بوصفه منتمياً إلى جماعات خاصة، متنوعة الأهداف والروابط والآراء والمصالح"، أي يولد الإنسان مواطناً حراً، ومن أهم أسس حريته إعتناقه للأفكار والآراء المختلفة، ولكن تلعب التربية المواطنية دورها في تنويره وتوجيهه نحو مصالح الوطن الأساسية والولاء له، وتقديمها على قمة أولوياته، مهما كانت تلك الأفكار والآراء التي يحملها... وهذا ما ندعو إليه لحماية أوطاننا من تلك الأفكار المتطرفة طائفياً ومذهبياً وأيديولوجياً.
ودون نسخ تجارب الأمم الأخرى نسخاً كربونياً على تجاربنا وتاريخنا العربي، يصل الكاتب إلى نتيجة هامة، وهي إن التربية المواطنية لا تقتصر على التنوير بل إلى تحويل الإنسان الذي وُلد "مواطناً ممكناً" ليكون "مواطناً فعلاً"، وتعمل على تكوين المواطنية في دائرة "الشعور والإرادة والسلوك"، أي تحويل المواطن من كائن معنوي إلى فرد طبيعي من خلال إكتساب صفات ترفعه إلى مرتبة "المشاركة الفعلية ، بحرية ومسؤولية"... يرتبط وجوده بوجود الوطن، ومصالحه بمصلحة الوطن.
وهنا يتساءل الكاتب "هل يوجد نموذج جاهز، ثابت وصالح لكل المجتمعات السياسية، لصنع المواطن؟" ويضع إجابته على هذا السؤال بالنفي...
وللحديث بقية...