التربية السياسية والمواطنية (2)

يذكر، ناصيف نصّار، في كتابه (في التربية والسياسة) إنه لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي أو في تاريخ الدول ما يثبت وجود نموذج واحد جاهز وثابت للتربية المواطنية تطبق على جميع المجتمعات، لذا يتطلب من الدول والأمم خلق النماذج الخاصة بمصالحها وتاريخها، وبما يتناسب مع ثقافاتها وتراثها ومعطياتها والظروف التي تمر بها. وهنا يعطي الكاتب مثالاً على إن الدول التي تمكنت من الوصول إلى زرع الولاء والإنتماء الوطني في أفرادها لن تقابل نفس الدرجة من الصعوبة التي تجدها الدول الممزقة بين مختلف التيارات والولاءات الداخلية والخارجية، والروابط المذهبية والعشائرية والطائفية، رغم إن حاجة هذه الدول للتربية المواطنية تكون أكثر إلحاحاً وضرورة.
ولتفسير التربية المواطنية كعلاقة تربوية، يشير الكاتب إلى أنها شبيهة بالعلاقة التي تكون بين المُرسِل والمُرسَل له، أو المربي والمتربي، والتي عادة ما تنشأ بين الأستاذ والطالب في جميع العلوم العقلية والدينية وغيرها، لذلك عادة ما تكون الدولة هي الطرف المربي والشعب هو المتربي. لذلك يؤكد الكاتب على إن الدول الديمقراطية، التي تحترم مبدأ الحرية، لا يمكنها المحافظة" على وجودها في هذا العصر، والعصور الآتية دون الإهتمام جدياً بالتربية المواطنية في جميع مراحل التعليم المدرسي"، لانها بذلك تعلّم مواطنيها الحرية المسؤولة والمساواة الديمقراطية، والتي من المهم جداً أن يتعلمها الإنسان بدأً من السنوات الأولى في المدرسة "وهو طري العود، ومستعد للتكيّف بحسب ما يقدمه له المسؤولون عن تربيته"... ويأتي بعد المدرسة الدور الهام الذي يمارسه الإعلام في نشر هذا الوعي والمساعدة في حمل أعباء التربية المواطنية إذا تم استخدامه بأساليب وآليات مناسبة لبلوغ ذلك الهدف... أو الوقوف بعيداً عن ممارسة أي دور عكسي يؤثر سلباً على الوعي المواطني في المجتمع.


أما عن التربية المواطنية كمشكلة سياسية، يذكر الكاتب بأنه كما إن قرار إعتماد المواد التربوية المختلفة، مثل القراءة والكتابة والحساب، لهو قرار سياسي لما يحمل من إنعكاسات وأهداف سياسية لحل مشكلة التنمية والتقدم، فإن التربية المواطنية تعد "أكثر التصاقاً بالسياسة من غيرها، لأنها من أولها إلى آخرها تربية سياسية"، حيث تطرح الدولة والحكومة من خلالها تصوراً عن نفسها بشكل أو بآخر. وهنا يجب إستدراك مدى حساسية هذه المادة في مجال التعليم، والتي تعتمد على مدى قدرة الدولة على الوصول بتلك المعلومات بصدق وإخلاص تامّين إلى المتلقي، من خلال المعالجة الحقيقية لمشكلات المواطن والمواطنية، وإلا فإنها لن تصل إلى الغاية المرتجى من هذه التربية المواطنية، بل قد تكون النتائج عكس الهدف المراد منها.
ولا بد أن نذكر هنا ملاحظتنا على ضعف أداء بلداننا العربية في كل تلك المعلومات التي ترسل من خلال المواد المدرسية للمتلقين الصغار بهدف تعزيز الحس الوطني والقومي، والتي عادة ما تصل بصورتها المبالغة في وصف الإيجابيات عن الحاضر والتاريخ، تلك المبالغات التي توقعنا في ردود فعل عكسية لأننا لا نتعلم من خلالها الحفاظ على مصالح الوطن بالعقلانية البعيدة عن المبالغات، وبالحوار والعمل المخلص والهادف لحل قضايانا ومشاكلنا دون المبالغة سلباً أم إيجاباً، تلك المصالح الوطنية التي هي بحاجة ماسة لتفهّم واقعي وحقيقي من قبل المواطن حفاظاً عليها بعيداً عن تلك النوازع السلبية التي عادة ما تتربى مع الإنسان وتبقى كامنة في داخله وتنطلق بمجرد وصول الفرد إلى أول عتبة في سلم العمل الإداري... سواء في العمل الرسمي أو الخاص أو المدني... تلك الممارسات التي تسمى فساداً بشتى أشكاله ، سواء الفساد السياسي أو المالي أو الإداري...
وللحديث بقية...