التحقيق والنقاش تحت ضغوط نفسية

المراقب لمناقشات مجلس النواب لملف التحقيق في قضية هيئتي التأمينات والتقاعد خلال الأسابيع الماضية، وما حدث قبل تلك المناقشات من تسرب لتقرير لجنة التحقيق إلى الإعلام، والطريقة التي أدارت وسائل الإعلام هذه المناقشات، والأسلوب المشحون الذي يتداول به الشارع هذه القضية، يكتشف إن كل العملية أو أغلبها تدار تحت ضغوط نفسية سلبية (سواء في داخل أو خارج البرلمان)، أولها وأهمها تلك الضغوط النفسية المشحونة بشحنات إنفعالية من الكراهية والغضب التي لا يمكن التعويل عليها أو تحقيق نتائج إيجابية منها، وأخرى ضغوط نفسية تهدف إلى تحقيق انتصارات وهمية لأصحابها والتي في النهاية لن تحقق مصالح المواطنين، وأخرى ضغوط نفسية تهدف إلى إخراج مجلس النواب من ركوده بمناقشات ساخنة توحي بقدرات النواب العالية، رغم ضعف هذه القدرات، مما في النهاية لن تحقق لهم حتى الخبرة المطلوبة في هذا المجال الحيوي والهام.


كل تلك الضغوط النفسية جعلت الآراء تتباعد وتبتعد تماماً عن الهدف الأساسي لهذا التحقيق، الذي يتخلص في تصحيح ما هو خطأ وتأمين الحقوق التقاعدية للمواطنين، والبحث عن أنجح السبل لتفادي هذا النوع من الأخطاء، بعيداً عن دائرة الخوف والرعب من آلية التشهير، مثال ذلك التشهير المفرط الذي مارسه مجلس النواب في حق موظفي الدولة من شبابنا الحاملين لأعلى المؤهلات العلمية والخبرات العملية والمحاسبية، والذين لم تثبت في حقهم أي عملية فساد إداري أو مالي أو نوع من أنواع الثراء السريع الذي عادة ما يلحق بتلك العمليات. ذلك التشهير الذي وصل بأحد اقطاب لجنة التحقيق أن يرفع صوته مطالباً رئيس المجلس بوقوف مسئول دائرة الاستثمار في هيئة التقاعد لعرضه أمام الحضور (وكأنه كائن غريب) ليتعرف الجمهور إليه شكلاً من حيث إن ، حسب عُرف سعادة النائب، سنوات عمره الثمانية والعشرين لا تؤهله لممارسة هذا العمل الإستثماري الهام، رغم حصوله على مؤهلات عالية وخبرات وتدريبات مختلفة في مجال عمله.
كل تلك الضغوط النفسية السلبية التي عمل من خلالها مجلس النواب والشارع ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام، في تلك المناقشات وذلك التحقيق، تصب في تأسيس أو تأكيد الثقافة القائلة إن كل من يعمل في جهاز الدولة فهو إما مختلس وإما مرتشي وإما جاهل بمهام منصبه وعمله... وهذا ما لا يمكن أن يكون صحيحاً وما لا يجب أن يصبح ثقافة يتبناها المجتمع... فهذا الجهاز الحكومي في النهاية هم أبناءنا وآبائنا وأجيالنا السابقة والقادمة.
ومن ناحية أخرى، وبينما نشكو من فشل إستثماراتنا وضعف عوائد تلك الاستثمارات في هاتين المؤسستين الحيويتين والخطيرتين، فإننا، في نفس الوقت، ومن خلال إنفعالاتنا المبالغ بها، نؤسس ثقافة عدم الثقة في كافة سياساتنا الاستثمارية وفي كفاءة أبناءنا ومؤهلاتهم، ونؤسس لثقافة الشك وعدم الثقة في ذمة كل مواطن يعمل في القطاع العام، ونكرّس جميع العوامل الطاردة للإستثمار والمستثمرين. وأحد الأمثلة على هذا السلوك الإنفعالي والمشحون وغير الموضوعي من داخل البرلمان (وما أكثره في خارج البرلمان) هي تلك المداخلة التي قدّمها أحد أعضاء لجنة التحقيق حول عدم كفاءة إدارة الاستثمار في هيئة التأمينات، في معرض رده على تقرير مدير الهيئة، قائلاً بإن خسائر العائدات الإستثمارية هي نتيجة لعدم كفاءة إدارة الإستثمار، أما الإستثمارات الناجحة والتي تدر عوائد عاليه فإنها تتم "بمحض الصدفة" وليس لكفاءة السياسات أو العاملين عليها.
وهنا نتساءل... ألم يحن الوقت أن ننسى شيئاً من الماضي لنتمكن من العمل لبناء المـستقبل... أو كحدود دنيا... ألن نتمكن من فتح ملفاتنا القديمة بشيئ من الحكمة والعقلانية، وبعيداً عن دائرة الضغوط والشحنات النفسية السلبية؟؟


كلمات دالة: