تحرير العراق، بمفهوم التاريخ وواقع الحال

هي قضية احتلال ولا شيء غير ذلك، أما من يريد تحوير صفة هذا المحتل وهذا الاحتلال إلى أي معنى آخر فإنه بكل تأكيد يملك من الأسباب الذاتية ما لا تعني العراق بشيء، أو يملك من الصفاقة السياسية ما لا يجعل لرأيه أي قيمة أو وزن... ولأنه احتلال يحرسه 160 ألف عسكري ومئات الألوف من العتاد والآليات العسكرية، ولأن المحتل مستمر في تدمير العراق والعراقيين، ولأن المحتل لا يريد للعراق أدنى مستويات السيادة التي تمكنه من امتلاك قراره السياسي والاقتصادي والعلمي والتعليمي والأمني، إضافة إلى قائمة طويلة من الأسباب الوطنية والقانونية والحقوقية الأخرى، ولنقطع الطريق على المزايدين والمنظرين كل حسب أهوائه ومصالحه الخاصة... لهذا كله نتساءل، هل تم احتلال أي دولة في العالم بالغزو وبالقوة وتم تحريرها بالحوار والوسائل السلمية؟... ونجيب، هذا ما لم يحدث عبر التاريخ... وإنما قد تكون هناك احتلالات تم دحضها بالحوار السلمي نتيجة للمقاومة المسلحة، أي بعد أن نجحت المقاومة في إيصال رسالتها كاملة في كسر إرادة المحتل وتوجيهه نحو طلب الحوار والمفاوضات من أجل التحرير... وإذا كانت هناك حالة تحرير واحدة على مدار التاريخ تمت عبر الحوار فهي استثناء للقاعدة، وكما يؤكد العلم، فالاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
ومع إن هذه الحقيقة عنيدة وأثبت التاريخ صحتها، إلا إنه لا يزال المحتل يصر على إن قدومه إلى هذه البلدان لا يعد احتلالاً وإنما بدعوى التحرير أو بدعوى نقل حضارته أو منظومته الثقافية والسياسية التي يرى إن هذه البلدان بحاجة لان ترتقي إليها، لتخفي بذلك الأهداف الحقيقية للاحتلال، التي هي الغزو ونهب الثروات وتحقيق مصالح خاصة به... لذلك ولكي يكسب مشروع الاحتلال مصداقية، يلجأ المحتل لأدوات محلية من أشخاص ومؤسسات وتابعين ومريدين لتزيين وجه هذا الاحتلال البشع، ومن ثم يتم تكريسه لفترة أطول ...

وهكذا كانت محاولات الاحتلال يائسة على مدار التاريخ، بدليل إن كل احتلال كان ولا يزال يفرز المقاومة لتنتهي هذه الصراعات بانتصار الشعوب رغم إن الموازنة في بداياتها تكون في صالح المحتل بسبب قوته... وما يحدث للعراق هو امتداد لهذه الحركة التاريخية في الصراع بين المُستَعْمِر والمُستَعْمَر... صراع بين المقاومة والاحتلال ... وصراع بين الحرية والاستعباد.
إلا إن من سوء حظ العراقيين والعراق انه ابتلى بقوة استعمارية لم يشهده التاريخ عبر مختلف العصور، وهذه القوة خضعت لها كل دول العالم ومؤسساته القانونية والإنسانية، والأمر الأخطر إن هذه الدول والمؤسسات لم تلتزم السكوت بل أخذت تزين صورة هذا الاحتلال على أن أمريكا ليست دولة احتلال بل هي دولة تحاول تحقيق العدالة ومفاهيم الحرية والديمقراطية في العالم، ليصل الأمر بالأمم المتحدة أن تعمل، وبأساليب ملتوية، على تعديل وضع الاحتلال، وهذا ما لم يحدث على مدار التاريخ.
ومن سوء حظ العراق أيضاً إن أمريكا لم تأتي لاحتلال العراق لتحقيق أهداف سامية بل هي قامت بهذا العمل الخارق وبتكلفة باهظة لتحقيق أهداف بعيدة المدى تخدم مصالحها الحيوية والاستراتيجية، إذ لم يعد سراً أن الاحتلال يهدف إلى السيطرة على النفط في خطتها لامتلاك السيطرة الكاملة على هذا النفوذ الاقتصادي الحيوي لتحقيق قوتها العظمى الأولى في العالم ومنع نشوء قوة تنافسها بعد نهاية المنافس النووي الأكبر في العالم...
والأدهى من ذلك أن قرار احتلال العراق ليس قراراً خاصاً بالولايات المتحدة فقط، مما يمنع أن يكون قرار إنهاء هذا الاحتلال قراراً خاصاً بها أيضاً، إذ رغم إنها تعد صاحبة القوة العسكرية الأولى في العالم، إلا إن هناك شريك اتخذتها أمريكا بخيارها في هذا الاحتلال، وهو الشريك الصهيوني الذي سوف يكون له المصالح الكبرى في هذا الاحتلال أيضاً.
كل ذلك منع العراقيون من التفكير باحتمالات سلمية، أو من خلال الحوار والمفاوضات، أو حتى من خلال تقديم بعض التنازلات للمحتل، للحصول على الاستقلال أو حتى السيادة المنقوصة وغير الكاملة... إذ أن ذلك يتناقض مع أهداف الاحتلال الأساسية... ولكن، ومع إن هذه الحقائق قائمة على أرض الواقع، ومع إن ادعاءات المحتل بالتحرير والديمقراطية وغيره أثبت بطلانها بالمفرق والجملة، إلا إنه، مع الأسف الشديد، لا تزال هناك أطراف عراقية تروج لهذا الاحتلال وتتعاون معه لكي تمنع أي عمل كفاحي لإنهاء هذا الاحتلال، وبدأوا يروجون لهذا الاحتلال لتحقيق مكاسب شخصية وذاتية وحزبية ضيقة، تجاوزت كل الحدود، فشاركت المحتل للقضاء على المقاومة الرافضة للاحتلال، الأمر الذي سوف يطيل أمد الصراع على أرض العراق ويخلق المشاكل للمقاومة، إذ عوضاً عن مواجه عدو خارجي واحد، على المقاومة أيضاً مواجهة هؤلاء العملاء، الذين لم يعودوا فقط مدنيين بل اصبحوا يتشكلون في ميليشيات مسلحة بعد أن تم تدريبها في خارج العراق استعداداً لهذا الظرف.
ولكن رغم ذلك، إلا إن قدرة الشعب العراقي وإرادته، وإدراكه ومفاهيمه لأهداف الاحتلال، ومن خلال أيمانه العميق بأن هكذا محتل لا يزول إلا بالمجابهة بالقوة والإرادة والتصميم على تقديم الثمن المطلوب لتحقيق التحرير، شَكّل هذا الشعب مقاومته في وقت قياسي بالنسبة للمقاومات المشابهة على مدار التاريخ، وحققت هذه المقاومة العراقية الكثير من المنجزات على طريق التحرير قياساً إلى الفترة الزمنية القصيرة التي مضت على اندلاع الشرارة الأولى، رغم كل تلك المعطيات السلبية التي تواجهها وتحاول التقليل من شأنها والتعتيم على نجاحاتها الباهرة التي يعترف بها العدو مرغماً في كل تقاريره الخاصة.
في مقالات قادمة... إنجازات المقاومة العراقية.