الليبراليون العرب... واجهة اليمين الأمريكي

يكثر الكلام هذه الأيام عن ظاهرة الليبراليين العرب... لأسباب مختلفة، أهمها إنها ظاهرة باتت تعلن عن نفسها من خلال كم من الآراء المتطرفة وغير المألوفة للأذن العربية... كتحقير الهوية القومية والعروبة، ورفض كل الأنظمة العربية وتعريفها بالدكتاتورية، عدا تلك الأنظمة العربية الحاصلة على صكوك "الحليف الإستراتيجي" التي توزعها إدارة بوش على الأطراف التي تهيئ لها سبل تحقيق مشروع القرن الأمريكي الجديد... والأكثر تطرفاً في تلك الآراء هو إعلانهم الصريح والمبطن بوقوفهم مع الدولة الإسرائيلية، كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ومناصرتهم الإحتلال، سواء في فلسطين أو العراق، وعدم ممانعتهم لإحتلال باقي الدول العربية الدكتاتورية لتحقيق "الديمقراطية"... هذا هو المنطق الليبرالي العربي، الذي لا علاقة له بكل مفاهيم الليبرالية الغربية وقيمها التي عملت على بناء تلك الصروح الصناعية والسياسية والإقتصادية في العالم الغربي... فمن هم هؤلاء الليبراليون العرب؟.. وكيف أصبحوا ممثلين للفكر الحر على شاشات الفضائيات منذ تهيئة العالم لإحتلال العراق؟


أعلنت ظاهرة "الليبرالية العربية" عن نفسها بعد نهاية المرحلة الأولى من فترة ما بعد الحرب الباردة، وخلال مرحلة ترتيب النظام الدولي الجديد... وهي بالتحديد مرحلة تنفيذ إستراتيجيات ومخططات القوة العظمى الأمريكية في المنطقة العربية أو منطقة النفوذ النفطي في العالم. ولكن لا يمكن أن يقال إن هذه الليبرالية العربية، قد ظهرت بشكل عفوي وفجائي، أو كنتيجة طبيعية لتغيرات الوضع السياسي أو الإجتماعي أو الاقتصادي في المنطقة... وتحديداً في هذه الفترة الزمنية التي يمكن أن يذكرها التاريخ مستقبلاً بإنها كانت سنوات، أو عقود، الصراع والتسابق الدولي في ترتيب نفوذ القوى العالمية الكبرى للقرن الجديد، والتي سوف تتداخل فيها قوى الغرب والشرق على نحو غير مسبوق وغير قابل للتنبؤ في نفس الوقت... وإنما، من المؤكد، إن هذه الفئة تم إعدادها، بشكل مباشر وغير مباشر، بكل وسائل الإعداد المعلنة وغير المعلنة، وعلى مختلف المستويات ومختلف المجالات، في غفلة أو تغافل من القوى السياسية الوطنية والقومية العربية، مع بدايات سقوط المعسكر الشرقي.
إن ما يؤكد عدم عفوية ظهور هذه الفئة العربية الجديدة، وفي هذه المرحلة السياسية التاريخية بالذات، هو ذلك الدور الذي يقوم به هؤلاء الليبراليون في المنطقة، إعلامياً وفكرياً... والذي يعد دوراً مسانداً ومؤازراً وموازياً لدور اليمين المحافظ الأمريكي، وبنفس منهجه الفكري والإعلامي، حتى من حيث إنتقاء الكلمات والمصطلحات التي يراد بثها وتثبيتها في الفكر العربي، من خلال سياسة الضغط الإعلامي بالتكرار والتكرار... تلك السياسة التي أثبتت فاعليتها في تنفيذ الأهداف الأمريكية في فترات مختلفة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. وهنا يمكن التأكيد بإن إنتشار الليبراليون العرب في العالم اليوم يأتي من منظور إيجاد وخلق جماعات ثقافية جديدة على مستوى المجتمعات المدنية والأنظمة الرسمية، لتكون الذراع الطولى للسياسة الأمريكية الهادفة للسيطرة على أهم مناطق النفوذ النفطي والاقتصادي في العالم... ومن جانب آخر لتحل هذه الفئة، أو الجماعات، من حيث كونها آليات أمريكية جديدة، محل الآليات الأمريكية القديمة والمتمثلة في منظمات الإسلام السياسي التي خلقتها المؤسسات الأمريكية في أوج فترات الحرب الباردة، لتُستَخدَم في صد الإمتداد الشيوعي والسوفييتي في هذه المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي... والتي أستُخدِمَت، في فترة لاحقة لذلك، في ضرب المد القومي العربي من خلال خلق العداء والصراع بين الهوية الدينية والهوية القومية، وتكريس الهوية الإسلامية على حساب الهوية العربية، التي من شأنهما، إن توحدا، أن تشكلا الإنسان العربي المسلم المؤمن بأرضه عقيدة، وبأمته هوية، ليكون سداً وطنياً منيعاً في مواجهة السياسات الإستعمارية والإحتلالية المرسومة للعصر الذي نحن على مداخله.
هذا تعريف مختصر لنشوء "الظاهرة الليبرالية" التي نعيشها اليوم، وعلينا أن نرصد بدقة دورها السلبي والخطير في مسخ هويتنا العربية وثقافتنا الوطنية، تحقيقاً لمصالح نظام القطب الواحد في العالم... وبقي أن نقول بأن كل متتبع لمراحل تأسيس ظاهرة تلك المنظمات الإسلامية المتطرفة وشخوصها، منذ بداياتها إلى ما آلت إليه اليوم في علاقاتها مع الطرف الأمريكي، يستطيع أن يتنبأ بمصير هذه الظاهرة وشخوصها عند إنتهاء دورهم وإنتفاء الحاجة الأمريكية إليهم... وهو يوم ليس ببعيد بمنظور حسابات المصالح.


كلمات دالة: