ذهنية الديمقراطية

تقوم الديمقراطية على مبادئ الحرية التي تقوم على مفهوم نوعي إيجابي يتضمن مبادئ حقوق الإنسان وتجسد قضية إنسانية تتعدى قيمتها قيم الأشياء الأخرى لأنها تعبر عن امتلاك الإنسان لفكره وإرادته، وتمنحه شعور المواطنة الكاملة في استجابته للحقوق والواجبات، وتعمل على تحرير عقله للانطلاق نحو المستقبل واكتشاف المجهول، وبهذا المفهوم تصبح "الديمقراطية – الحرية" بدون معنى حقيقي في غياب حرية الاختيار. إلا أن الحرية ليست مطلقة، بل هي محدودة ومحددة في إطار المسؤولية المشتركة لأفراد المجتمع وتتطلب درجة من الانضباط لتحديد ممارسة الفرد لحريته بالعلاقة مع حرية ومصالح المجتمع.
إن إحدى العقبات التي تواجه الحرية ومهمة التحول الديمقراطي هي النزعة الذاتية القوية تحت السلطة، إذ أن السلطة تحفز على الفساد، وإن الذين يتمتعون ببعض السلطة، حتى وإن كانوا من أصحاب الضمائر الحية عادة ما يرونها من زاوية خاصة بهم عند حصولهم على المزيد منها. وهذا مبرر آخر لفرض الرقابة المؤسسية على تصرفات السلطات المختلفة لكي لا تتبنى سياسات وتشريعات يمكن أن تقود إلى إضعاف أو تشويه أو تقييد "الديمقراطية – الحرية"، لأن ما يتخذ بطريقة ديمقراطية لا يكون بالضرورة ديمقراطياً.


من مبادئ الديمقراطية رفض الإيمان المطلق بالأفكار والإيديولوجيات السائدة لصالح التعامل النسبي معها، والتخلي عن همجية العنف حتى في الحوار في ظل احترام قيمة الإنسان ووجوده، ونبذ المواقف الحادة - العصبية - في إطار استعداد النخب والأطراف المختلفة للعيش بسلام والقبول بالمنافسة في سياق الاتفاق على الحد الأدنى الضروري للأهداف العامة المشتركة.
إن أفراد المجتمع يسعون وراء أهداف متباينة يتم التعامل معها - بين أمور أخرى - من قبل الحكومة، والاختلاف والاتفاق جانبان مهمان من جوانب الأنظمة السياسية ولن يستطيع أفراد المجتمع وهم يعيشون معاً الوصول أبداً إلى الاتفاق على كل شيء، ولكن إذا أرادوا الاستمرار في الحياة معا، يجب أن يتفقوا على أهدافهم.
بذلك تتطلب عملية التحول الديمقراطي بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية ومؤسسية توفر لها إمكانية الاستمرارية والنمو بطريقة تصاعدية، ويتحقق ذلك إذا توصلنا إلى الاقتناع بأن كافة الأفكار نسبية بالعلاقة مع الحقيقة، إذ لا يوجد فكر يمتلك الحقيقة الكاملة. وبهذا الموقف الفكري المرن تبرز القدرة على الاستيعاب واتباع طريقة التوفيق بدلاً من العزل والإقصاء، والإجماع أكثر من المواجهة.
ليست الديمقراطية عسلاً نقيّا، أي قاصرة على الإيجابيات فقط، ولا تقدم حلولاً سحرية للمعضلات المجتمعية، بل لها كذلك سلبياتها، سواء ما تعلق ببطء صنع القرار أو انفتاح المجال لاحتمالات حصول المزيد من الانحرافات السياسية والإدارية والجرائم الاقتصادية، أو ما قد تولده من صراعات حضارية بين القيم الحديثة الوليدة وبين قيم التراث القديم، خاصة في المجتمعات الأقل نمواً. وبكلمات موجزة، تتطلب الديمقراطية الانتباه الشديد إلى أهمية تحقيق التوازن في مسيرتها بالعلاقة مع المسيرة الاقتصادية والاجتماعية.
من هنا كانت مهمة التحول الديمقراطي نمطية تتسع وتتعمق مع انتشار الثقافة الوطنية الديمقراطية، ونمو الذهنية الديمقراطية، وتحسين الأوضاع الحياتية للمجتمع. هذا علاوة على أهمية تطوير الكفاءات والمهارات لإدارة العملية السياسية المجتمعية ومواجهة مخاطر الانحرافات الاجتماعية. كذلك تتطلب عملية التحول الديمقراطي انضباطاً مجتمعياً في سياق تحقيق موازنات بين مهمة التحول هذه، من جهة، وبين تزايد خطوات التنمية البشرية، من جهة أخرى، حتى لا تتحول الديمقراطية إلى مجرد ظاهرة شكلية سطحية وممارسات غوغائية وإنهاكات لمعيشة الأغلبية.


كلمات دالة: