كيف يمكن أن يكون الغزو الثقافي إذن...

هل فعلاً يجب أن يكون الصحفي حيادياً ومتجرداً من كل شيء في نقله وتحليله للأخبار؟ وهل التجرد من المشاعر الإنسانية، والحيادية في القضايا الوطنية والقومية تعدان من الخصائص السلبية أم الإيجابية؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان بطبيعته البشرية متجرداً من المشاعر الإنسانية، وحيادياً في أهم القضايا التي تمسه وتمس أمن عائلته وأمن وطنه وأبناء قومه؟ وهل فعلاً هناك أمم من حولنا يتميّز صحفييها بالتجرد والحيادية؟... ويا ترى هل سبق أن طرحت هذه القضية للمناقشة والحوار بكل أبعادها الوطنية والإنسانية والتاريخية والمعرفية، في الوسط الإعلامي البحريني؟ أم إننا حتى في هذا المجال الثقافي علينا أن نعتمد على اجتهادات وفتاوى الأقدمين من الصحفيين، ليس لغزارة علومهم ومعرفتهم أو لتحصيلهم العلمي، بل فقط لأقدميتهم، حتى لو كانت الأقدمية وسنوات العمل هذه لم تحقق أية نجاحات تذكر، لا على صعيد العمل الوطني ولا على صعيد العملية الإعلامية، سواء على مستوى المؤسسات الإعلامية الخاصة، أو العامة أو على مستوى ثقافة المجتمع البحريني خصوصاً، أو العربي عموماً.


من المتعارف عليه إنه كثيراً ما يستعين الإنسان ببعض التعابير اللفظية لتغطية أو تبرير نقاط ضعفه السلوكي أو الأخلاقي أو العلمي أو المهني ... ولكن، ومنذ دخول منطقتنا العربية في عصور الظلام الثقافي والتخلف العلمي، وخصوصاً خلال النصف الأخير من القرن الماضي، ارتفعت وتيرة مواقع الضعف المعرفي والعلمي والسلوكي لدى الإنسان العربي، مما حوّل الأخطاء الشائعة، أو الحالات الشاذة التي يعيشها هذا المجتمع، إلى قواعد وأساسيات ومناهج تم تبنيها من قبل جيل عربي عريض، مما سهّل استلابه بواسطة الغزو الثقافي الغربي (الأمريكي) المبرمج، فجاء تبنيه واستخدامه لكل تلك الألفاظ أو التعابير المستوردة لإخفاء قدراته العلمية والثقافية المتدنية... ومع مرور الزمن حولوا هذه التعابير إلى نظريات يتباها بها قطاع كبير من المجتمع دون أي استدراك لتأثيراتها السلبية التي تشكل أخطاراً لا تقل عن اخطار الاستعمار المباشر.
وضمن هذه الرؤية، تأتي تعابير مثل الحيادية والتجرد الصحفي في سلسلة تلك المنظومة من التعابير والمفاهيم التي لم تأتي من فراغ، وإلى فراغ، بل جاءت ضمن عمليات مبرمجة لتعمل في تغيير النمط الفكري لمجتمعاتنا بما لا يتناسب مع مصالحنا... فهي ضمن تعابير كثيرة جاء به الغزو الثقافي الغربي في مجال تعريفه لاسلوب الحرفنة والمهنية الخالية من كل القيم الإنسانية والوطنية والأخلاقية... وهكذا بدأت مجتمعاتنا العربية تجني ثمارها السلبية، فأصبح هذا التجرد جزء من نمط الفردية في التفكير العربي والحيادية جزء من ذهنية اللاإنتماء الوطني. وهكذا تحوّل الصحفي والإعلامي العربي إلى أداة يمكن أن تفيد من يحركها ويشغلها، ولم يعد الصحفي يملك القدرة على تبني قضية وطنية يدافع عنها أو قيم انسانية يحافظ عليها، وابتعد الصحفي أو الإعلامي، بهذه المفاهيم والقيم الجديدة عن قيم الولاء الوطني والانتماء القومي، لصالح السلوك الفردي، والثقافة الاستهلاكية، والخواء الثقافي لكي لا يقال عنه إنه غير متجرد أو غير حيادي، إي غير مهني... لأن المهنية أعلى مرتبة من الوطنية حسب هذه القيم، ولكي يكون مهنياً ناجحاً يجب أن يكون مجرداً من الإنسانية حسب هذه المفاهيم.
فإن لم يكن هذا غزواً ثقافياً، يا ترى، كيف يمكن أن يكون هذا الغزو الثقافي إذن...


كلمات دالة: