إحذروا الثقافة الجديدة والمشبوهة

عادة ما تتسلل القيم السلبية إلى المجتمعات ببطء وبخفاء، بشكل لا يمكن رصدها ومجابهتها ببساطة، مما يمكنها من النفاذ في مسامات المجتمع والتربّع بداخلها بيسر وسلاسة، لحين استفحال الحالة واستنفار المقاومة الذاتية، المتمثلة في القيم الإيجابية والإنسانية التي يملكها المجتمع، وحينها تتداعى المقاومة الخارجية، المتمثله في القوى المجتمعية المختلفة، للعمل على رفض تلك السلبيات ونبذها إلى خارج الجسم المجتمعي... هذه هي الحالة الطبيعية التي يمكن أن تقاس بها تفاعل المجتمعات مع التغيرات الجديدة في القيم والثقافات الإنسانية وما يرافق تلك الثقافات والقيم من أنماط حياتية وفكرية وإبداعية جديدة، بما يُمَكّن الأمم من تخليد إسهاماتها الحضارية على مدار التاريخ البشري.


ولكن يبدو إن واقعنا العربي الراهن يرفض هذه الصيرورة الحضارية للبشرية، ويصر على إبقاء مجتمعاتنا العربية مرتهنة لكل القيم السلبية في تفاعلها مع العصر والأحداث والتغيرات المتلاحقة التي تطرأ على العالم، مما يبقيها في حالة مستمرة من الضعف وعدم القدرة على مواجهة تلك الأحداث المتلاحقة، وفي حالة مستمرة من التبعية المباشرة وغير المباشرة لكل من يملك بعض من عوامل القوة (بمختلف معاييرها) المهيمنة على إرادة ومصالح الشعوب الضعيفة... ولربما استطعنا أن نعزو لهذا الواقع العربي المرتَهَن والضعيف والتابع بعض من أسباب عدم قدرة مجتمعاتنا على تطوير تلك الإبداعات الفكرية والإنسانية التي بدأها مفكرينا الأولون...
هكذا كانت تتفاعل أفكاري بعد حضوري لندوة جمعيات "التحالف الرباعي"، مساء الأربعاء 28 أكتوبر، حول "التداعيات السياسية لوقف الحوار حول المسألة الدستورية مع السلطة"... حيث جاءت المداخلات على لسان رموز الجمعيات السياسية مشحونة بردود أفعال خالية من الموضوعية، وداعية إلى تبنّي قيم ومفاهيم جديدة في العمل السياسي، وثقافة سياسية ووطنية جديدة تعطي الأحزاب والقوى السياسية المعارضة الحق المشروع في الإتصال بمختلف الدول الأجنبية ودوائرها السياسية الرسمية ومختلف الهيئات والبرلمانات والقوى السياسية والمدنية في العالم، حتى لو كانت هذه الدول والدوائر السياسية الرسمية هي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة عبر سفارتيهما... وخصوصاً، بحسب تلك المداخلات، إن أنظمتنا نفسها تتعامل مع هذه الدول والدوائر بتبعية وولاء، وإن أنظمتنا وَفّرَت لهذه الدوائر تسهيلات عسكرية واقتصادية لتشن الحروب المتتالية في المنطقة... هكذا كان يجري الحوار والمنطق التبريري لتبني هذه الثقافة السياسية والوطنية الجديدة في تلك الندوة.
ولكن نسي هذا المحفل أن يذكر لجمهوره الأسباب التي دفعت بقوانا الوطنية المعارضة لتبنى تلك الثقافة (السياسية والوطنية) الجديدة، لما يُشَكّلَ ذلك من إنحدار رأسي شديد من ثقافاتها (الوطنية) القديمة، التي كانت (تمنح) لقب الخائن والعميل لكل وطني شوهد متلبساً في حالة المرور من أمام بوابة إحدى هذه السفارات أو الدخول إليها طالباً تأشيرة سفر إلى تلك البلدان... ونسي المتداخلون في تلك الندوة، وهم كلهم من رموز الجمعيات السياسية، أو تناسوا أن يعلنوا ممن استمدوا تلك الشرعية في إجراء تلك الإتصالات المشبوهة، وما الأسباب التي دفعتهم أو قد تدفعهم للجوء إلى ممارسة هذا (الحق) في تكوين تلك العلاقات المشبوهة... فعلى سبيل المثال وليس الحصر، هل يكون الإتصال بهذه الدوائر الرسمية الاستعمارية بهدف الثرثرة وعرض حال؟ أم للشكوى وطلب الوساطة لحل خلافاتنا؟ أم لاستعمال إمكانياتها الاستعمارية المتوحشة للتدخل وإنهاء أزماتنا الداخلية (المستعصية) على الحل؟... ويا ترى هل حقاً هذه الدوائر الرسمية الاستعمارية من مصلحتها حل أزماتنا وخلافاتنا في هذه المنطقة؟...
الأهم من كل ذلك، هل هناك محاولات لطمس الذاكرة ومحو التاريخ الاستعماري لكل تلك الدوائر الرسمية الأجنبية التي عملت في الخفاء، لعقود طويلة، على تنظيف الساحة السياسية، في منطقتنا، من القوى الديمقراطية والأفكار الوطنية الشريفة؟ لتحل محلها تلك القوى السياسية الدينية والمذهبية التي نشأت بدعم من أيادي خفية لتؤدي أدوارها الطائفية والتفتيتية لإضعاف قدرات هذا المجتمع وتشتيت جهوده وتقزيم مفاهيمه وتسطيح ثقافاته، إلى ما وصل إليه الحال اليوم... أم إن هذه الجمعيات السياسية تحاول أن تنكر أو تتجاهل الإعتراف بإبتلاء مؤسساتنا المدنية بإختراقات لا تقوم بها إلا تلك الدوائر الرسمية الاستعمارية لتحقيق مصالحها في هذه المنطقة؟... أوليس كل ذلك الغضب المفتعل والصخب الصبياني في شوارعنا هذه الأيام، وما يمارس من أدوار القذف والشتم بواسطة شخوص يتم تحريكهم ورسم أدوارهم مسبقاً ما هو إلا أداء أولي وساذج ومخترق، وبدلالات وأبعاد فائقة الخطورة... وهل يمكن أن يدعى هذا الأداء عملاً وطنياً إلا في عُرْف ونطاق تلك الثقافة السياسية الجديدة التي تحاول بعض القوى السياسية نشرها في هذا المجتمع اليوم... تحت تأثيرات ومؤثرات مختلفة؟


كلمات دالة: