قريباً منهم، بعيداً عنهم . . . المقاومة في العراق (4)- تشكل نموذجها الوحدوي

منذ رسمونا ووضعونا في حدود سايكس بيكو ( ۱۹۱۷ ) وحتى يومنا هذا أصبحنا أمة معتقلة بين أضلعها المستطيلة والمربعة وغير متساوية الأضلاع ولأن "الزمن كليل بتقليص الأخطاء:، حسب مفاهيم الغربيين، اعتمدوا أن يتحول هذا الوضع الشاذ إلى حقيقة وأمر واقع يقاس عليه الشأن العربي، فتحولت جريمة سايكس بيكو الاستعمارية إلى قاعدة وكل ما سواها شاذ وخطا، يجب النقيد به وشن الحرب ضده. وهكذا أصبحت هذه الأشكال الهندسية سجوناً تعلق الأنظمة العربية حراسة أمنين عليها، ومدافعين عنها، متزلفين لمتعهدي سايكس بيكو الذين عملوا كل ما بوسعهم للإبقاء على هذه الحدود ورفع اسوارها عالياً على مدار قرن من الزمن "للحيلولة دون الوحدة العربية"، كما جاء في وثائقهم، ففشلت كل محاولات الوحدة الثنائية والثلاثية والرباعية وحتى التعاونية لأنها لم تحصل على مباركة المستعمر ودعواته المخلصة . لكل ذالك، أصبح واضحاً وأكيداً، إن أي شكل أو نوع من أنواع الوحدة بين العرب لن يكتب له النجاح ما لم يُفرض بواسطة الشعب العربي، رغماً عن متعهدي سايكس بيكو وحراسها الأمناء.


ضمن معادلة الوحدة، يمكننا أن نؤكد أن هذه الأمة لن تخرج من دائرة الهيمنة الاستعمارية الطامعة في نفوذ المنطقة وثرواتها ما لم يمتلك العرب إرادتهم بمفهوم هذا العصر، وهو مفهوم القوة الاقتصادية والسياسية إقليمياً أو دوليا، وهذه القوة لن يكتب لها النجاح والنمو ما لم تتخذ شكلها الوحدوي أو التكاملي العربي . . . وفي الطرف الآخر، لن يتحقق لهذه الأمة ما تنشده من الأمن والاستقرار الحقيقيين، والجالبين للحرية والديمقراطية التي تتطلبها التنمية الاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية، ما لم يتم ذلك على المستوى العربي الموحد أو المتكامل. وأهم ما يثبت صحة هذه القاعدة هو التجارب النهضوية العربية الفاشلة التي بدأت منذ عصر رواد النهضة العربية وحتى يومنا هذا الذي نعيشه في ظل إحتلالين ينخران في قلب الأمة، ونحن لازلنا نتساءل "لماذا تقدمت الأمم ونخلف العرب"، وكأننا لا نريد أن نعرف الإجابة الحقيقية التي هي بين أيدينا.
أما اليوم فهناك نموذج للوحدة العربية قد بدأ بالتشكل في ظل احتلال كان يراد له تحقيق المزيد من التفتيت والتمزق العربي الاسلامي. ففي العراق، الذي يعاني من ضيم الاحتلال وفجاجته، تلاحم العراقيون بشتى تياراتهم السياسية والدينية والمذهبية والأثنية تحت مظلة المقاومة لتحقيق الانتصار على العدو، في فرصة تاريخية توفرت للعرب لاختصار الزمن، واللحاق بحضارة العصر المادية التي لا تعترف إلا بالقوة هوية للأمم المتحضرة.
وبالعراق في ظل الإحتلال أيضاً تشكل النموذج الوحدوي العربي بتلاحم المجاهدين العرب مع العراقيين في مقاومتهم لأعتى قوى العصر الإستعمارية . . . فاخترق العرب حدود سايكس بيكو وتحرروا من قيودها، في أصدق تعبير لهم برفض الإعتراف بكل أنواع الحدود في أرضهم العربية، فتدافعوا إلى العراق لمقاومة المحتلين تلبية لنداء قومي واسلامي لا يُرد، فبدأت نواة الوحدة العربية بالتشكل بالمجاهدين والجهاد ضد بطش القوة العسكرية والاستعمارية الأمريكية دفاعاً عن مقدسات الأمة وأرضها وتاريخها.
لقد قلب هذا الاحتلال الموازين، فعمل من حيث لم يعلم على صهر نفوس العرب فحول ضعفهم إلى قوة، وخلق عوامل الانقلاب الروحي في المجتمعات العربية بشكل عام، واستعادت الأمة في العراق مواقف متكافئة مع الأمم المتقدمة في وحدتها بالنضال الشعبي من أجل الحرية والاستقلال والسيادة. وانطلاقاً من العراق يحقق العرب اليوم هدفهم ببناء الدولة العربية كما عمل الأوائل منهم . . .
وهناك سطرت صور الجهاد الحية التي تربط بين الحاضر والماضي العربي، في إشارة واضحة لدور الإحتلال وفضله بتحريك محركي العروبة والإسلام، لينقلب السحر على الساحر، فاستشهد المجاهدون العرب في العراق دفاعاً عن أرض الخلافة الإسلامية، ليعيدوا إلى الأذهان تلك الروابط القومية التي يرى العربي كل أرض العرب أرضه . . .
وهكذا، يقف العرب والعراقيون متراصين في العراق أمام جحافل الإحتلال، في صورة مشرقة للوحدة العربية المنشودة . . . ولتنطلق بعد ذلك مواكب الوحدة من العراق لبناء وحدة العرب العصرية . . .