قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (3)- شعلة أمل الأمة

على مدار التاريخ كان للعراق تأثير مباشر وعميق في كل المنطقة العربية، بدءاً بامتدادات الحضارات المتعاقبة التي سادت على أرضه منذ بدء الخليقة، انتهاءاً بزلزال الإحتلال والاستعمار الأمريكي الصهيوني البريطاني لهذه الأرض المتوغله في وجدان التاريخ الإنساني والعربي والإسلامي وفي وجدان كل العرب مع بداية الألفية الميلادية الثالثة، ومروراً بما تخلل كل تلك الفترات من صراعات وحروب ومؤامرات استهدفت كل حضاراته بهدف استعماره ونهب خيراته على مدار التاريخ، وما تخلله من فترات الإبداع والإشعاع بالعلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة التي تميّز العراقيون بالسبق والفضل بها على كل العالم منذ أقدم العصور.
واستناداً لهذه الحقيقة التاريخية، كان للعراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة أبلغ الأثر على الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، بما حققه من تقدّم علمي واقتصادي وثقافي وابداعي في سباقه مع الزمن للحاق بركب الحضارة المعاصرة في الانتاج الصناعي المرتبط بالثروة الاقتصادية كسبيل للقوة والاستقلال، مما جعل تفاعل وتأثير كارثة إحتلاله ضارباً ومزلزلاً للمشاعر العربية، بما لا يدع مجالاً للشك بإن تبعاته اللاحقة ستخلق واقعاً عربياً جديداً على مستوى الشعب العربي الذي لم يعد يتحمّل انكسارات أكثر إذلالاً من هذا الاحتلال، رغم محاولات الأنظمة العربية بتجاهل هذه المشاعر وقمع شعوبها المتفاعلة بعمق في الشأن العراقي… وخصوصاً بعدما أثبتت المقاومة في العراق إن البطولات العربية ضد الغزاة والمحتلين لازالت تحتفظ بذات العنفوان التاريخي الذي تميّز به العرب الأوائل، وإنه بمجرد الاصطدام بتحدي الغزو والاحتلال استرجعت الأمة، متمثلة بالعراق، كل تاريخها على مسرح الأحداث لتثبت للعالم بإن الشعب العربي لم يتأثر بأدوار أنظمته المستسلمة للمحتلين…

وإذا كان هناك أية (إيجابية) يمكن أن تذكر لهذا الإحتلال فهو ما سيذكره التاريخ بإنه كان سبباً لجلاء ليل العرب وكسر قيودهم… فلقد آن لهذا الليل العربي الطويل أن ينجلي، ولهذا القيد أن ينكسر، فصدى انكسار الإحتلال سيتردد في كل العواصم والمدن العربية مدوياً من العراق الذي يعيش اليوم أحسن حالاته الوطنية التي لا يمكن إلا أن تكون درساً نضالياً بليغاً يقف له كل العالم أجلالاً.
ففي داخل العراق، ومن حيث لم يتوقعه الغزاة، حقق هذا الإحتلال القبيح أحد أهم أهداف العراق العربي الموحد، إذ شكّلت المقاومة وعاء اختلطت، ولا زالت تختلط، به الدماء العراقية بمختلف ألوانها الأثنية والدينية والمذهبية والمناطقية والسياسية، كما اختلطت به دماء العراقيين بدماء أخوتهم العرب الذين ما فتئوا يتوافدون على أرض العراق للجهاد، وسوف تتضاعف أعدادهم كلما طال أمد الإحتلال... وروت هذه الدماء كلها أرض العراق من شماله إلى جنوبه، وضمت هذه الأرض رفات الشهداء المجاهدين دون تمييز بين جنس ودين ومذهب، فتوحدت الأرواح والاجساد في فضاء تاريخي نادراً ما يتكرر إلا للأمم الحية والخالدة.
إنها صورة سيريالية، ولكنها حققت على أرض الواقع، الهدف العراقي الأسمى، وهو الوحدة الوطنية الكبرى، فتلاحمت فيها كل التيارات السياسية التي تمثل الشعب العراقي بتعدديته المتجانسة، فالتحم القوميون مع الماركسيون مع الإسلاميون، ليشكّلوا فصائل المقاومة بقوتها الضاربة والمستعصية على القوات الأمريكية... كما حققت هدف الوحدة القومية التي جمعت العرب بمختلف مشاربهم مع العراقيين في الجهاد ضد الاحتلال... فيا ترى هل هناك من قوة قادرة على فك هذا التلاحم وهذه الوحدة الاندماجية؟، أو حتى إيقاف نموهما وتطورهما المواكبان لصيرورة الحياة الطبيعية؟
في معرض إجابته عن سؤال "إن كانت واشنطن تكسب الحرب على المقاومة؟"، قال دونالد رامسفيلد "من وجهة نظري أن الولايات المتحدة وقوات التحالف لن تكون هي الأداة القادرة على هزيمة المقاومة"... هذا ما صرّح به وزير دفاع المحتل والمخطط الأكبر لهذا الغزو والاحتلال، وذلك بعد عامين من بدئهما، وتحديداً في يوم الأربعاء 27 أبريل 2005... فإن كانت هزيمة المقاومة غير ممكنة وإن انتصارها محتوم ومؤكد، مهما طال أو قصر الأمد، فهل من الممكن فك ذلك التلاحم الوطني والقومي الذي حققته المقاومة؟...
وبالجانب الآخر، إن هذه المقاومة، بكل تجلياتها العظيمة، خلقت حالة من العنفوان الوطني والقومي في كل أرجاء الوطن العربي، فبينما تتفاعل أدوارها الوطنية في داخل العراق نحو الحسم بالنصر، هي تفرض ظلال مرجعيتها القومية على الشعب العربي بأكمله... وإن كان هناك من فئات عربية غير بصيرة لهذا الواقع العربي الجديد، لعدم امتلاكها لنعمة التبصّر، فإن القادم من التاريخ القريب سيثبت مدى تقوقع تلك الفئات في صومعات بعيدة عن واقع مجتمعاتهم... ومع رجوع أولئك المجاهدين العرب إلى أقطارهم، ستستمر شعلة المقاومة لتضيئ آمال الأمة بأكملها... وسيواصل المجاهدين رفضهم لكل أنواع السياسات العربية المذلة لكرامة الشعب العربي، وستقع الأنظمة العربية تحت المساءلة والمعارضة والمقاومة للنهوض بالأمة أو التنحي للمخلصين من أبنائها لإدارة شئونها التي هُتِكَت وابتُذِلَت...
هذه هي المقاومة التي بزغت في العراق... لتكون شعلة أمل الأمة... ولن تخبو شعلةً ولا أملاً؟... والتاريخ خير مُعَلّم ومُرشد...!!