لماذا منتدى المستقبل (2)

كانت ومازالت المساعدات والقروض المالية المقدمة للبلدان النامية تعزز نموذجاً يؤكد فشله باستمرار، فهذه الأموال عملت وتعمل كل يوم على زيادة القيود على هذه البلدان، وعلى تزايد الفساد المالي والإداري واتساع طبقة المرتشين والقيادات الموالية والمرتبطة بالدول المانحة ضد مصالح بلدانها، وعلى فشل المشاريع التنموية في البلدان النامية المقيّدة بشروط البنك الدولي وسياسات الدول المانحة (مجموعتي السبعة والثمانية - G8, G7)... وباختصار، فإن كل تلك المساعدات والقروض لم تحقق إلا المزيد من الضعف والعجز في دولنا واستمرار تبعيتها للاستعمار الذي تمكّن من فرض شروطه وسياساته وسيطرته على المنطقة في فترة ما بعد الاستقلال من خلال هذه الآليات المالية الخطيرة...
40% من المساعدات المالية لدولنا تذهب إلى حسابات سرية بالبنوك الغربية (أغلبها لأفراد في قمة القيادة ولهم علاقة مباشرة بالأطراف المانحة)، فأصبحت هذه المساعدات عبارة عن تجارة وأعمال "Business"... ويصرف الجزء الباقي على المشاريع المحلية التي تفوز الشركات الغربية بمناقصاتها بتكلفة تصل إلى أضعاف كلفتها الحقيقية، وهكذا ترجع تلك المساعدات مرة أخرى لأصحابها من المانحين... وفي حالة القروض فإن العجز في السداد يدفع هذه البلدان لأحضان البنوك والشركات الغربية الكبرى لشراء ديونها بفوائد تعجز دولنا عن سدادها، ليبدأ مسلسل فرض الشروط والقيود المدمّرة لكل المصالح والمشروعات التنموية الوطنية، و"يجري استعبادها والاستيلاء على ثرواتها ومواردها إلى أجل غير مسمى، بحيث تظل تدور في فلك الإمبراطورية الأمريكية" (اعترافات سفاح اقتصاد: اصطياد الدول الفقيرة بالديون، تأليف جون بركنز / دار بيريت كوهلر للنشر 2004)...

وهكذا سارت السياسات التنموية العربية على مدار العقود الماضية من فشل إلى فشل، وتبخرت الثروات العربية في أوج فترة الطفرة النفطية، وتشكلت طبقة عريضة من الأثرياء العرب المفسدين في كل مجالات الحياة العربية السياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والاجتماعية، ناهيك عن الأنظمة التي عملت على تمرير السياسات الاستعمارية في المنطقة إلى حد الرضوخ للاحتلال العسكري للأرض العربية... في حين إن الثروات العربية عملت ولاتزال تعمل على ازدهار وتطوّر الحضارة الغربية...
فإذا كان هذا خط سير وتسلسل آثار المساعدات المالية الغربية للأنظمة العربية، فيا ترى ما هي الآثار التي ستترتب على مجتمعاتنا من المساعدات المالية التي تصر هذه الدول أن تمنحها "للمشاريع الربحية الصغيرة والمتوسطة الحجم" ولمؤسسات المجتمع المدني في بلداننا بدعوى التطوير والدعم؟.
في بدايات القرن العشرين جاءنا المستعمر القديم بمشروع سايكس بيكو، لتجزئة وتقسيم الأرض العربية وتوزيعها بين أنظمة رسمية لا تملك أية مقومات سوى الولاء بالكامل للمستعمر... ورغم ذلك، وخلال نصف قرن، لم تنجح المعارضة العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، في ملء الفراغ "الناجم عن وجود سلطة منفصلة عن المجتمع كلاً أو بعضاً"، لأنها لم تتمكّن من أن تقدّم "الأدلة السياسية والفكرية والأخلاقية على أهليتها لكي تكون ذلك البديل التاريخي" (المعارضة والسلطة في الوطن العربي، د. عبدالإله بلقزيز/ مركز دراسات الوحدة العربية 2001)، والقادر على القيام بأدواره الشرعية، ولذلك فقدت هذه المعارضات شرعيتها في مجتمعاتها... ومع تغيّر النظام الدولي، ودخول المنطقة في مرحلة الإصلاح الأمريكي أعطت هذه المعارضات لنفسها الحق في اللجوء للمستعمر للحصول على تلك الشرعية التي فقدتها، ومن ثم لتدخل إلى بلدانها بقوة فرض الأمر الواقع من خلال المشاريع الاستعمارية الكبرى التي ستُدخل دولنا في حالة جديدة من الصراعات التي تتداخل وتختلط فيها الأدوار الوطنية بالأدوار الخيانية من خلال طرح مفاهيم وقيم ثقافية جديدة، لتغليب مصالح تلك الفئات السلطوية والانتهازية الجديدة على مصالح الوطن والمجتمع بشكل عام.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين جاءنا المستعمر الجديد بمشروع الشرق الأوسط (الكبير، أو الموسع، أو الأكبر) بمخططات غير معلنة لتقسيم المجتمعات العربية إلى أثنيات وطوائف ليتم توزيعها على قيادات شعبية لا تملك من المقومات سوى الولاء للمستعمر... وباتجاه هذا الهدف تعمل السياسات الأمريكية على إحتضان مؤسسات المجتمع المدني وتدريب قياداتها للوصول إلى السلطة بالآليات الديمقراطية، لتكون النسخة المحسنة من النظام العربي القديم، دون الخروج من الحوزة الأمريكية، بل ستحارب هذه الحوزة كل المعارضين للنظام العربي والنظام الإستعماري الجديدين، فلن تصل إلى قمة السلطة أية قوة غير موالية لتلك الحوزة حتى بالتنافس "الديمقراطي"... وستكون هذه المؤسسات مدعومة بواسطة رجال الأعمال الصغار وحديثي العهد في عالم المال من أصحاب المشاريع الربحية الصغيرة الحجم، من الاوتوقراط المتدثرين بلباس الليبرالية.
لهذا الهدف، وبذريعة نشر الديمقراطية دخلت السياسات الأمريكية في كل شئوننا، الخاصة والعامة، بدءاً بإدارة الشباب من خلال برامج إعداد القادة والنشاطات المبرمجة، مروراً بالمرأة التي يتم "تمكينها" لتكون جزءاً من التغيير الأساسي في ثقافة ونمط تفكير الناشئة من داخل الأسرة التي تشكّل الخلية والركيزة الأساسية والأولى في المجتمع، وانتهاءاً بالتعليم الذي يجري العمل على كسر مرتكزاته الوطنية والتاريخية والعقائدية لتخريج أجيال بدون هوية ولا ذاكرة....
وبذريعة الإصلاح، يدعم مشروع الشرق الأوسط (الجديد، أو الموسع، أو الأكبر)، ومشروع الشراكة المجتمعية، مؤسساتنا المدنية من خلال نخب تم تدريبهم وتعيينهم وتمويلهم من داخل أجهزة المخابرات الأجنبية، وهذه النخب تارة تدعى قيادات المعارضة العربية، وتارة تدعى قيادات مؤسسات المجتمع المدني... هؤلاء هم قادة المرحلة القادمة المدعومين من النظام العالمي الجديد... ومن خلال هؤلاء تتم السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص لتكتمل كل أبعاد السيطرة على المجتمعات العربية وضمان تبعيتها الكاملة لتلك السياسات في الغرب، و"كله بسعره"، حسب المقولة المعروفة، وليس هناك إغراء أكبر من إغراء المال والسلطة.
لهذا كله جاء "منتدى المستقبل"، و"الموازي" ليكون منبراً شرعياً لتنفيذ هذه المشاريع وتشكيل ذلك الواقع العربي الجديد، بسياسة المراحل، وبموافقة الحكومات والشعوب، دون وعي منها تارة، وبالترهيب تارة أخرى...