قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (5)- ماذا يميز هذه المقاومة

"لا تَشْتَدّنّ عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطَئوا للجُنُوبْ مصارعها، وأذْمُرُوا أنفسكم على الطعن الدّعسِي، والضرب الطّلحَفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، فوالذي فلق الحبة وبَرَأ النسَمَة ما أسلَموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكُفْر، فلَمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه"
(نهج البلاغة، الجزء الثالث، "قول الإمام علي عليه السلام لأصحابه عند الحرب")
حظيت الحركات الوطنية والشعبية والمقاومات المسلحة والسلمية، التي نشأت قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، بإهتمام إعلامي وأدبي واسع، فكانت مادة ثرية للمتخصصين بها من الكتاب والصحفيين والروائيين الذين تناولوها، حسب أهميتها، بالطرح المباشر أيديولوجياً وتاريخياً وسيرة ومساراً، أو بالطرح الأدبي والروائي والتوثيقي والخيالي. وكان ذلك الأهتمام والدافع برصد تلك الحركات متزامناً مع المد الثوري، الذي وإن بدأ من بعد الحرب العالمية الأولى، إلا إنه إزداد زخماً وانتشاراً على مدار ثلاثة عقود منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية. ومع تحقيق تلك الثورات لأهدافها وانتصاراتها ونجاحاتها الباهرة حفرت في ذاكرة التاريخ دروساً إنسانية لا يمكن أن تُهمَل أو تُنسَى، فتحولت، مع الزمن، إلى علوم عسكرية وسياسية تُدَرّس في جامعات العالم.
اشتركت كل تلك الحركات الوطنية في سماتها الأساسية، التي تعد النواة الأساسية لانتصاراتها، والمتمثلة في المعايير والمفاهيم الروحية التي عملت كقوة دافعة ومحركة لكل الآلاف المؤلفة من العناصر البشرية التي انخرطت بها، وأهم تلك المعايير هو الإيمان الصادق والمخلص بالوطن وبمبادئ التضحية والكرامة الممزوجة بقيم القوة والشجاعة والحق ونكران الذات، وهي قيم ومبادئ يصعب على المجتمعات المادية أن تتفهم حقيقتها الجوهرية المعاكسة تماماً لأنانية المستعمر وهيمنته على الشعوب لنهب وسرقة ثرواتها.

لذلك انتصرت تلك الثورات على أعدائها، فنجح "غاندي" بتحرير الهند، كما حرر "ديجول" فرنسا من الإحتلال النازي، وانتصر أبطال الجزائر على مستعمريهم الفرنسيين، ونجحت ثورة "جيفارا" في كوبا، كما قاد "ماو تسي تونع" ثورة الصين ومسيرتها الكبرى نحو النصر، وحقق المعلم الجنرال "جياب" والقائد المفكر "هو تشي منه" أكبر انتصارات القرن العشرين على كل القوات الأمريكية في فيتنام، ولا يذكر التاريخ، بشكل عام، هزيمة أية مقاومة وطنية مسلحة أمام أعدائها... ولكن هيهات أن يتعلّم من التاريخ من لا تاريخ له.
واليوم، ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين، يشاهد العالم كله المقاومة الوطنية في العراق وهي تقارع أكبر وأشرس قوة عسكرية على وجه الأرض، في حرب شرسة شنتها الولايات المتحدة على العراق لإحتلاله بهدف وحيد أوحد، وهو السيطرة على النفط العراقي والزحف باتجاه تأسيس الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية، فعاثت بأرض العراق قتلاً وفساداً وخراباً وتدميراً، وقضت على كل مؤسسات العراق ودولته، ظناً بأنها قادرة على إلغائه من الخريطة الجغرافية. وبعد مرور أكثر من عامين على هذه الحرب اكتشف المحتل بأن النزال بينه وبين المقاومة في العراق لم يسجل أي تقدّم إيجابي لصالحه، بل بالعكس، إذ استمر نزيفه البشري والمادي والمعنوي في تصاعد وأصبح فوق كل التوقعات، وإن كل يوم يمر عليه في العراق يقربه من هزيمة كارثية مؤكدة، كما جاء في تصريحات جنرالاته ومفكريه الاستراتيجيين... وصدقت المقاومة في توقعاتها بهزيمة الاحتلال، وكذبت المعاهد الاستراتيجية الأمريكية الكبرى التي لم تتمكن من قراءة التاريخ لمعرفة أسباب انتصار الشعوب دائماً على المعتدين عليها. فيا ترى كيف تمكنت هذه المقاومة من أن تكون بهذه القوة رغم كل الظروف الدولية المعاكسة لها، والتي اختلفت جذرياً عن الظروف التي نشأت بها المقاومات الوطنية السابقة؟!... نعم، ماذا يميّز المقاومة في العراق عن غيرها من المقاومات!؟، وما الذي يجعل هذه القوة، التي لا تقارن إمكانياتها المادية بإمكانيات المحتل الأمريكي الأكبر والأضخم تسليحاً وتدريباً وتحديثاً، قادرة على امتلاك قوة المواجهة الضاربة ووسائل النصر الأكيد؟!... علماً بأنها تواجه في العراق إحتلالين، وليس واحداً... فبجانب الإحتلال الأمريكي الصهيوني البريطاني المعلن، هناك احتلال إيراني غير معلن، بدأ يتغلغل في داخل المجتمع العراقي بمختلف الأساليب، بالإرهاب والعنف تارة، وبالترغيب والمراوغة تارة أخرى.
نسرد هنا بعض من تلك المميزات التي انفردت بها المقاومة في العراق عن غيرها من المقاومات الوطنية السابقة، ونترك البعض الآخر من مميزاتها إلى حين تسمح الظروف السياسية بذكرها...
1- كحقيقة باتت معروفة للعالم، تميّزت المقاومة في العراق بأنها تدار بواسطة قيادات الجيش والمخابرات العراقية، كقوى مدربة ومثقفة أحسن تدريب وتثقيف عسكري وإداري ووطني، كسابقة لم تتكرر مع المقاومات الأخرى، إذ عادة ما يَصِفْ الجيش مع الحكومة التي تحكم تحت حراب الإحتلال، وضد الثوار والمقاومين الوطنيين. ففي الحالة العراقية كانت ترتيبات تحوّل أجهزة الدولة العسكرية إلى حرب العصابات والشوارع قد أعدت مسبقاً لقناعة الأطراف العراقية كلها بإن الحرب النظامية في مواجهة أكبر قوة حربية في العالم لن تحقق النصر المطلوب، فكان لزاماً عليهم الاستعداد لأكثر أنواع حرب العصابات إحكاماً... وهذا ما بدأ منذ اللحظات الأولى من دخول القوات الغازية إلى بغداد.
2- والحقيقة الثانية التي تميّزت بها المقاومة في العراق هي سرعة انطلاق عملياتها التي بدأت في اليوم الثاني من الإحتلال، وترجع الأسباب أولاً: إلى أن كل الشعب العراقي مُدَرّ ب عسكرياً، بدءاً بأفراد الجيش وباقي التنظيمات العسكرية التابعة له، وانتهاءاً بالجيش الشعبي وجيش القدس وفدائيي صدام والتنظيمات النسائية وغيرهم من الشيوخ والأطفال العراقيين... وثانياً: إلى إنتقال كل قطاعات الجيش العراقي إلى المقاومة المسلحة منذ اليوم الأول.
3- لوجود المخططين الاستراتيجيين العراقيين، أصبحت الأهداف الاستراتيجية للإنتصار على العدو واضحة المعالم بالنسبة للمقاومة، فما كان من قيادتها العسكرية إلا وضع الاستراتيجيات العملياتية المطلوبة وإيجاد الوسائل والتجهيزات التي تؤدي للوصول إلى تلك الأهداف.
4- على عكس كل المقاومات الوطنية السابقة التي توزعت في ارتباطاتها بين معسكري الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة، وحصلت على دعم ومساعدات مستمرة، لتمويل عملياتها، من تلك المعسكرات والجهات الدولية المتصارعة على مناطق النفوذ في العالم، على عكس كل ذلك، تتميّز المقاومة في العراق باعتمادها كلياً على نفسها وقدراتها وإمكانياتها الذاتية، بعيداً عن الأقطاب الدولية والقوى والأحزاب والتنظيمات الخارجية.
5- وكذلك على عكس كل المقاومات السابقة، لم تحصل المقاومة في العراق على أي دعم أو مساندة من الدول المجاورة لحدودها، بل يعمل الجيران كما يعمل الأشقاء العرب، على خنقها في تداعيات مختلفة.
6- المقاومة في العراق تتميّز على غيرها بأنها تمتلك جهاز كامل من علمائها في التصنيع العسكري، ممن لديهم القدرة على تغيير طبيعة السلاح وتطوير استخداماته باستغلال كل أنواع المواد وقطع الغيار المتوفرة في الوسط المحلي العراقي، إضافة إلى مخزون الأسلحة التي تم توزيعها على كل بيت وكل مناطق العراق.
7- بسبب التعتيم والتشويه الإعلامي التام على كل أخبار المقاومة في العراق، أصبحت تعتمد كل فصائلها على قوة ونوعية عملياتها كجهاز إعلامي ، وسواء تم التعتيم أو تسليط الأضواء عليها، فهذه العمليات كفيلة بإيصال صوتها ونشر أخبارها على مستوى العالم... في النهاية ستصل الرسالة المطلوبة للهدف المقصود.
8- عملت المقاومة في العراق على تكثيف عملياتها في وسط وشمال العراق، بسبب كثافة تواجد القوات المحتلة في هذه المناطق... ولكن أيضاً عملت وتعمل بدقة على تنفيذ عملياتها في الجنوب في مناطق تواجد القوات البريطانية التي لا تنتشر بين السكان كثيراً لذلك تقع تلك العمليات تحت التعتيم الإعلامي الكامل، كما شاركت المقاومة بقوة مع جيش مقتدى الصدر في النجف والكوفة والحلة عندما استهدف الأمريكان هذه المدن، مثلما قاتلوا في الفلوجة عندما فتحت القوات الأمريكية جبهة حرب فيها.
9- تمكنت المقاومة من القضاء على كل محاولات الحرب الأهلية التي حاول الإحتلال إشعالها في العراق، اعتماداً على ما يملكه الشعب العراقي من ثقافة سياسية ووعي وطني ينبذ كل الخلافات الدينية والطائفية والأثنية... وبهذا تمكنت المقاومة من فضح سياسات المحتل وكشف كل مؤامراته.
10- أن قوة ونجاح وتصاعد المقاومة في العراق في حربها ضد المحتلين هو نتيجة لوقوف الشعب العراقي بأكمله معها وتصديهم لحمايتها، وخاصة إن الأرض العراقية خالية من كل العوامل الطبيعية والجغرافية التي تعتمد عليها حرب العصابات مثل الغابات والسلاسل الجبلية الوعرة وغيرها، فساحتها هو الشارع العراقي وملاذها هو البيت والشعب العراقي بأكمله.
11- في جانب آخر فرضت الطبيعة الجغرافية في العراق على المقاومة نوعية عملياتها التي جعلت من أفراد المقاومة متواجدين في كل الشوارع والمناطق في شخصيات مختلفة لتنفيذ عملياتهم، مثل بائع السجائر، وبائع الصحف وبائع الخضار والجالسين على ناصية الشارع وفي المقاهي وغيرهم... فأصبح كل عراقي مشروع مقاومة يتوجس منه العدو، مما أدى إلى إنهيار كبير في معنويات قوات الإحتلال.
12- وأخيراً لابد أن يذكر لهذه المقاومة فضلها في خلق وحدة وطنية كبرى في العراق الحديث، بتوحيد صفوف كل التيارات السياسية الوطنية في مواجهتها للإحتلال...
وسوف يكشف التاريخ القريب كل مميزات هذه المقاومة التي لم نتمكن من رصدها أو ذكرها، والتي بانتصاراتها الحاسمة، قريباً سوف تغيّر "المعادلة الكونية" وتفتح آفاقاً استراتيجية جديدة أمام القوى والأقطاب الدولية من ناحية، والشعوب المضطهدة والغاضبة من ناحية أخرى،،، فأدعوا لها بالنصر...