مشروع قانون أحكام الأسرة في البحرين يواجه مشروع بناء دولة داخل دولة

بداية نرى ضرور التوضيح بإن الكم الكبير من النشاطات والفعاليات الرسمية والأهلية، التي بُذِلَت ولازالت تُبذل لإصدار قانون للأحوال الشخصية ينصف المرأة والأسرة البحرينية منذ بدايات العقد الثمانيني للقرن العشرين وحتى هذا العام الخامس من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، قد استهلك من الجهد والوقت والمال أكثر بكثير مما يستحقه الموضوع برمته، ورغم ذلك فإننا لازلنا متخلفون عن العصر بما يقارب قرن كامل في قضايا الحقوق المدنية والاجتماعية التي شرعها الإسلام للمرأة في الكتاب المبين... فإلى متى سيستمر الجدال حول هذا القانون الذي، من دون غيره من القوانين، دخل خلال ربع قرن من الزمان في أنواع مختلفة من الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية، بدءاً بالرفض الرسمي في فترة السطوة الاستعمارية الغربية المهيمنة والرافضة لجميع أنواع الحريات في هذا الجزء من العالم، خوفاً على مصالحها المتمثلة في الثروة النفطية العربية في فترة الحرب الباردة، وانتهاءاً بالرفض الشعوبي والطائفي المتواصل والمترابط مع مخططات الاستعمار الجديد لهذه المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة، والذي نعيش في الوقت الحاضر حيثياته اليومية بشكل فاضح ومكشوف ومبتذل...

فأين نحن الآن بالضبط من هذا القانون الذي يراد عرضه في بورصة الاستثمار الشعوبي والطائفي لتفتيت المجتمع البحريني إلى جماعات متفرقة تحت رايات وقيادات متعددة؟!... ولماذا الآن؟!.
واليوم، مع استعمال المرجعيات السياسية/الدينية الشيعية، رفضها المدعوم بقوة الشارع التابع لها، لإصدار قانون أحكام الإسرة للشيعة عبر القنوات التشريعية المنتخبة في البحرين، تحقق هذه المرجعيات أهداف قديمة تم رسمها منذ أكثر من ربع قرن... ولتنشيط الذاكرة الجماعية للمجتمع نرجع قليلاً إلى الوراء لنعرف ما الذي يتم تخطيطه لمستقبل هذا الوطن في سراديب السياسة المظلمة...
ربما من أصدق التعابير وأقربها للتخرصات التي نعيشها منذ حوالي ربع قرن في البحرين، هو ما جاء به الدكتور عبد الإله بلقزيز في معرض كلامه عن أزمة المعارضة العربية، بقوله "إن ظاهرة الطلب المتزايد على الدين في مجال الاستثمار السياسي: استثمار المقدّس أو رأس المال الديني في العمل السياسي، إنما مردّه إلى غياب مجال سياسي، أو مجال تُمارس فيه السياسة، ومحاولة لاستعارة المجال الديني كي يكون ذلك المجال السياسي البديل، وليست تخفى تبعات ذلك الاستبدال على الاستقرار السياسي والسلم المدنيّ، بل على عملية السياسة ذاتها" (المعارضة والسلطة في الوطن العربي / مركز دراسات الوحدة العربية-2001)... وليس هناك شك من إن البحرين كانت منذ عام 1979 وحتى يومنا هذا هو المكان الأمثل لاستثمار المُقَدّس ورأس المال الديني في العمل السياسي بعد أن تم تفريغها من مجمل الحركة الوطنية بمنهجية استعمارية دقيقة التنفيذ خلال فترة السبعينات... الفترة التي استقرت خلالها الثورة "الإسلامية" في إيران لتبث دعواتها ورجالاتها إلى البحرين في حالة صارخة من حالات التدخل المباشر في سيادة وأمن المنطقة لتكوّن وتُشكّل منذ ذلك الوقت الجماعات والمؤسسات الطائفية-السياسية التابعة والموالية للثورة الإيرانية بدعوى الانتماء للمرجعية المذهبية التي تمثلها الدولة الإيرانية، تلك الحالة التي استمرت في انتهاك السلم المدني، وفي فرض حالة من عدم الاستقرار السياسي في المجتمع البحريني بأسره منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، بعد أن تم تعزيز وتقوية دور مؤسساتها ورجالاتها في فترة التسعينيات من القرن الماضي، لتعلن عن نفسها مع الدعوات الأمريكية لفرض الديمقراطية على المنطقة مع بداية هذا القرن الميلادي الثالث...
وخلال عقد ونصف عقد من الزمان، تطوّر عمل تلك المؤسسات المذهبية التي تخصصت في الثمانينات بنشر الوعي الطائفي بين الشباب البحريني، وخصوصاً بين فئة الخمسة عشر عاماً وأقل، لتخرّج في منتصف التسعينات جماهير مشحونة بعقدة الاضطهاد المذهبي للطائفة "الشيعية"، وتُقاد بسياسة مركزية قوية جاءت مع ثقافة تقديس المرجعية المذهبية والإنقياد لها... تلك السياسة المركزية التي تميّز بها نظام الحكم في الدولة الصفوية، منذ تأسيسها في القرن السادس عشر الميلادي، وتم نشرها ضمن ثقافة التشيّع الصفوي التي نُسِبَت إلى عقيدة الشيعة الأثنيعشرية لأسباب عنصرية-سياسية... وهي ذات الأسباب التي من أجلها عملت الدولة الفارسية، منذ ذلك التاريخ، على تحويل المرجعية العربية للشيعة في النجف الأشرف إلى مرجعية فارسية، بتقوية العنصر الفارسي في تلك المدينة المقدّسة في العراق من جهة، وتحويل الولاء المرجعي للشيعة الأثنيعشرية إلى مدينة قم الفارسية من جهة أخرى، لما يحققه ذلك من توجيه الولاء السياسي لكل الشيعة إلى إيران التي ما انفكت، حتى هذا اليوم، تنظر إلى المنطقة العربية بمنظار أطماعها التاريخية أولاً، وامتداداً لمصالحها الحيوية ثانياً. وعلى خطى هذه السياسات سارت القيادات والزعامات الإيرانية، لما توفرها لهم (هذه السياسات) من سلطات للتحكّم في الشأن الداخلي العربي في منطقة الخليج والعراق على مدار التاريخ، وهي سلطات الدين والمذهب التي استُخدمت لبث ثقافة الإضطهاد المذهبي ضد الشيعة حتى باتت جزءاً من الذهنية العقائدية المتوارثة لدى أبناء هذه الطائفة، وهي الثقافة التي تقوم عليها كل الفتن الطائفية في المنطقة منذ تاريخ نشوء التشيّع الصفوي...
واليوم، مع بدء المشروع الأمريكي بإعادة تشكيل (تقسيم) المنطقة العربية، وما جاء به ذلك المشروع من طروحات الفرز الطائفي والعرقي لتفتيت مجتمعاتنا من الداخل، بدا واضحاً إن القوة الطائفية التي تم بناؤها في البحرين طوال الفترة الماضية لم تأتِ من فراغ، وإن تلك الجماعات الطائفية قد وصلت لأهدافها في استثمار قوتها باتجاه الدعوة لتحويل الطوائف والمذاهب إلى كياناتٍ سياسية منعزلة، من خلال سلسلة من المطالبات بدأت ولن تنتهي قبل تحقيق أهدافها... وأهم تلك المطالبات اليوم هو الدعوة لإصدار تشريعات على أسس طائفية ومن هيئات لا علاقة لها بالمجالس التشريعية المنتخبة، وتشريعات قانون أحكام الأسرة هي إحداها. وهذه المطالب تعد المرحلة الثانية في مشروع بناء دولة داخل دولة... مشروع بناء دولة (صفوية) داخل مملكة البحرين، يكون لأبناء "الشيعة" فيها خصوصياتهم وقياداتهم وتشريعاتهم ومحاكمهم ومدارسهم ومناطقهم... إلخ، لننتهي إلى تقسيم البحرين بين أبناء الشيعة والسنة، كما هو الحال في العراق، وكما سينتهي له الحال في جنوب لبنان... وشواهد التاريخ عديدة...
ولكن بقي أن نعرف كيف سيتم التصدي لهذا المخطط المظلم!!؟؟...


كلمات دالة: