"التشيع الصفوي، والتشيع العلوي"... متابعات

في ليلة رمضانية بتاريخ 29 أكتوبر 1971، وفي "حسينية الإرشاد" بمدينة طهران، ألقى الدكتور علي شريعتي، الملقب بـ"معلم الثورة" الإيرانية ومنظرها ومهندسها، محاضرة في حشد من الشباب الإيراني بعنوان "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، كشف فيها بإسهاب عن حقيقة التشيع الصفوي وأصوله وتراثه وتأثيراته السلبية على الشيعة الجعفرية وعلى الإسلام، والتي كان أهمها تشويه التاريخ الإسلامي، وتزوير الحقائق وبث الفرقة بين المذاهب الإسلامية، وفصل الشيعة الجعفرية (العلوية) عن الأمة الإسلامية ووضعها في حالة من العزلة التامة عن أصولها وجذورها وبيئتها على مدى قرون طويلة... نستعرض هنا بعض مما جاء في تلك المحاضرة التي تم جمع ونشر نصها الكامل بواسطة مكتب "المعلم" في كتاب من 313 صفحة وبذات العنوان، صادر عن دار الأمير للثقافة والعلوم (بيروت/2002).
تحت عنوان جانبي عن "مونتاج الدين-القومية" يؤكد الدكتور شريعتي بأن الحركة الصفوية أرست دعائم حكومتها على أساسين محكمين وهما المذهب الشيعي والقومية الإيرانية بهدف عزل إيران عن الأمة الإسلامية وتمييزها عن العنصر العربي والخروج من إطار الهيمنة العثمانية لمنافستها في بناء إمبراطوريتها. وتاريخياً يُرجع الكاتب تاريخ بدء ظهور الشعور العرقي في نفوس الإيرانيين إلى أواخر فترة الخلافة الأموية، عندما بدأت الخلاقة الإسلامية بالانحسار لتحل محلها مظاهر الحكومة العربية التي أحيت التفاخر بالأصل العربي، مما أدى لظهور الفعل المقابل له ببروز الشعور العرقي في نفوس الفرس والدعوة لإحياء تيارات الاعتزاز بالهوية الفارسية، فبرزت منهم الحركة الشعوبية التي حملت في بدايتها شعار "التسوية" أي المساواة بالعرب بموجب الآية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"...

لتتحول هذه الحركة تدريجياً إلى حركة "تفضيل" العجم على العرب عبر "ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام ومن ثم إلى ضرب سلطة الخلافة وفصل الفرس عن تيار النهضة الإسلامية المندفع إلى الأمام بالقوة". وهكذا انعزلت إيران بينما كانت تعمل بالداخل على "توطيد العلاقة بين إيران الإسلام وبين إيران التراث"، دون أن تتمكن هذه الحركة من تحقيق أهدافها هناك، وإنما تمكنت من تحفيز "المشاعر الوطنية الكامنة في نفوس الإيرانيين وتمجيد الأكاسرة" وهذا ما حال "دون انصهار الإيرانيين بشكل تام مع جسد الأمة الإسلامية".
ولكن الدولة الصفوية بعد نشأتها في بلاد فارس حاولت عدم تكرار الخطأ الذي وقعت به الشعوبية من قبلها، بهدف ترسيخ الفكر الصفوي في ضمائر الناس وعقائدهم، فعمدت إلى "إضفاء الطابع الديني على عناصر حركتها وجرّها إلى داخل بيت النبي إمعاناً في التضليل ليتمخّض عن ذلك المسعى حركة (شعوبية-شيعية) موظفة الشعوبية في تحويل تشيّع الوحدة إلى تشيّع التفرقة، ومستغلة التشيّع لكي تضفي على الشعوبية طابعاً روحياً ساخناً ومسحة قداسة دينية"... وهكذا بدأ الصفويون برسم الروايات والقصص حول شخصية الرسول وآل بيته في حكايا فيها الكثير من القصور للبرهان على أفضلية التراب والدم الإيراني، وبالخصوص السلالة الساسانية.
وفي هذا المجال يعطي الدكتور شريعتي مثالاً حول منطق التشيّع الصفوي في دفاعهم عن الإمام علي بن أبي طالب والهجوم على الخلفاء كخصوم سياسيين له "الغاصبين لحقه في خلافة النبي"، ليصفه الكاتب قائلاً بإنه دفاع "تشمئز منه النفوس ويتسبّب في نفورها عن التشيّع وطريقة الشيعة في الاستدلال على الأشياء. وترسم لهذا المذهب الذي يمثل أبهى صور الحقيقة، صورة مشوّهة يتجسّد عبرها الباطل بأقبح صُوَرُه وأشكاله... وكلا الأمرين صحيحان، إذ المسافة بين وجهي التشيع العلوي والصفوي هي عين المسافة بين الجمال المطلق والقبح المطلق".. ولإثبات مقولته أورد الدكتور شريعتي مثالاً حسياً من بيان خطه ضده أحد منتقديه ليكون مثاله "بسند صحيح وبخط واحد من أبرز الوجوه العلمائية المتخصصة في التشيّع الصفوي"، الذي أهتم أن يكون أيضاً شخصية معاصرة، مما يمنحه قيمة علمية من حيث السند... وكمحاولة من الكاتب للمقاربة بين "مدى التشابه والتطابق بين أوضاع المجتمع الإيراني المسلم هذه الأيام وأوضاعه في أيام الصفويين"... وما يهمنا من هذا المثال هو تعقيب الكاتب عليه في وصفه لرجل الدين الصفوي مقارنة بالعلوي، إضافة للتعرف على طريقة الاستدلال والانتقاد والتقييم لدى علماء الاتجاهين.
يقول الدكتور علي شريعتي "إن رجل الدين الصفوي، ولا أقول العالم الشيعي، متعصب تعصباً أعمى، بمعنى أنه غير قادر على تحمل رأي المخالف وليس لديه أدنى استعداد للإصغاء إليه وفهم ما يقول. وليس المراد من (المخالف) هنا بالضرورة من يخالفه في الدين أو المذهب، بل حتى من يخالفه في نمط التفكير وطبيعة المزاج، فإنه لا يتورّع عن تكفيره بدون تردد".
ويقول أيضاً "إن رجل الدين الصفوي، وإن كان يرتدي في الظاهر نفس الزيّ الذي يرتديه علماء الشيعة، إلا أن المخاطب عنده دائماً هو عوام الناس حتى في مجال البحث العلمي. وهو يتهرب من مواجهة العلماء وأهل التخصص، ومع أنه يزعم إنه عالم شيعي ويدعي أنه مرجع للعوام في معرفة أمور دينهم، هو في الحقيقة مقلّد لعوام الناس وليس سوى أداة رسمية لإصدار الأحكام على ضوء ما استنبطه مريدوه تبعاً لأهوائهم ومزاجهم، وبالتالي هو ببغاء تردد ما يقوله العوام حتى في مجال الاعتراض على نظرية واردة في بحث وكتاب، فتراه يصرّح بأن النظرية الفلانية في الكتاب الفلاني باطلة ومخالفة لموازين الشرع المقدس، وعندما يُستفسر منه عن الموضع الذي استند إليه في إصدار فتواه يقول أنه لم يطلع على تفاصيل الكتاب ولكن عدداً من الوجهاء المعروفين وفدوا عليه وقالوا له إن الكتاب الفلاني ينطوي على أفكار ضلال ويجب أن تفعل شيئاً يحول دون أن يقرأه عوام الناس"... وذلك على عكس ما هو معروف عن علماء الشيعة في تاريخهم بالانفتاح والتحرر في مجال البحوث والمحاججة العلمية والدخول في المناظرات والمناقشات الفكرية والعقائدية.