منظومة القيم والمعايير ونهضة الدولة والمجتمع

جاءت قراءتنا الأولية للرسائل الملكية، التي بعث بها ملك البلاد، للشعب البحريني من خلال الإعلام، سواء ما كتبه شخصياً أو ما صرّح به في لقاءاته مع مختلف الفعاليات المجتمعية، جاءت قراءتنا لها على إنها الإعلان عن إنتقالنا كمجتمع ودولة من مرحلة انتهت إلى مرحلة جديدة بدأت في العملية الإصلاحية، مع ما تتطلبه هذه المرحلة من دعائم وقواعد وأسس أكثر قوة وصلابة للإنطلاق نحو المزيد من الانفتاح الديمقراطي، وتثبيت الأسس السابقة لحماية انجازات المرحلة الماضية، في نسق البناء التراكمي للأصول والمكتسبات المجتمعية المطلوبة لتحقيق التغيير المنشود.
خصوصاً وإن الدعوات الملكية توافقت مع انتهاء السنة الرابعة على إعلان الدستور البحريني بعد التعديلات التي أقرت تحوّل البحرين إلى الملكية الدستورية، وبدء عملية التحول الديمقراطي... وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على إعلان ميثاق العمل الوطني الذي حاز على إجماع الشعب البحريني، والذي ظهر في نتائج الاستفتاء العام بنسبة 98.4%...
ومع طيّنا للصفحة الأولى من صفحات الإصلاح، التي عاشت خلالها البحرين عملية مخاض سياسي وتفاعل مجتمعي ومد وجزر على مختلف الأصعدة الرسمية والشعبية، ومع شروعنا بتصفح صفحته الجديدة...

وبإرادة وفكر حريصين على نجاح نموذجنا العربي للتحول الديمقراطي في البحرين، نرى إنه قد حان وقت المراجعة والتقييم للتعرف على مواطن القوة ومواطن الضعف في هذه العملية السياسية المجتمعية، التي أصبحت في مركز الأحداث والاهتمامات الدولية كتجربة ديمقراطية وليدة وسائرة نحو المزيد من التحولات والتغييرات خلال مداها الزمني المطلوب ومسيرتها ومراحلها التاريخية المتتابعة، في منطقة تتفاعل بها أحداث محلية وإقليمية ودولية متضاربة ومتحركة وتتجاذبها أطراف مختلفة.
ضمن مراجعة شاملة وموضوعية، للفترة القصيرة المنصرمة من عمر الإصلاح في البحرين، يمكننا أن نؤكد بإن هناك عدم وضوح وقصور في منظومة القيم والمعايير التي ترتكز عليها العملية الإصلاحية، وخصوصاً وهي في طورها لتأسيس وبناء قواعد وآفاق التحوّل من مجتمع مغلق على نفسه فكراً وممارسة ومثقلٌ بالخوف والشعور بعدم الأمان، إلى مجتمع حر ومسؤول عن حريته وعن ممارساته الديمقراطية في التعبير عن الرأي والاجتهاد الانتاجي والابداعي المتميّز...
وفي هذا المجال، يؤكد الدكتور برهان غليون، العالِم العربي، والمتخصص في علم الاجتماع السياسي، إن "العنف والإرهاب هما تعبيران عن انحلال منظومات القيم والمعايير والقواعد التي تُشَكّل مدنية كل مجتمع. وتحت الضغط الشديد، المادي والمعنوي، بما في ذلك عنف الدولة أو القوى الأجنبية وما يتبع ذلك من انسداد الآفاق أمام الأفراد والجماعات، على مستوى الحياة اليومية أو العامة والجماعية، تتحلل النظم الاجتماعية وتفقد صدقيتها ويتحرر الأفراد والمجموعات منها أو بالأحرى ينخلعون عنها ولا يبقى هناك معايير للسلوك الجمعي والحفاظ على البقاء بعد انحلال منظومات القيم المجتمعية سوى معيار القوة المادية، أي العنف"...
في الجانب الآخر، يطرح تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، هذه المنظومات من القيم والمعايير بوصفها "نسق من الحوافز المجتمعية" التي يمكن تحديدها "بخيارات الفئات الاجتماعية الفاعلة في هيكل القوة في مجتمع ما" والتي يمكن أن تلاحظ من خلال نسق التربية من جانب، ولمجريات الأمور في المجتمع من جانب آخر، والتي بمجملها تنتج منظومة القيم والمعايير التي تعيد انتاج سيطرتها على المجتمع... وهنا يمكن التفرقة بين القيم والمعايير المعلنة من السلطة، وبين تلك التي يستقيها الأفراد من المجتمع من خلال مجمل الحركة الاجتماعية.
أما القيم والمعايير المعنية فيضعها ذلك التقرير في ثنائيات متضادة كالآتي : الحرية بدلاً عن السلطوية – المعرفة بدلاً من الإمتلاك المادي – العمل عوضاً عن الحظوة – العمل الجماعي عوضاً عن الأنفرادية – حرية المرأة بدلاً من تسلط الرجل – المؤسسات بديلاً للفردية – الإبداع عوضاً عن الإتباع – التعاقد الاجتماعي بدلاً من الولاءات الضيقة – الكفاءة بديلاً للمحسوبية.
ويؤكد التقرير أخيراً بإن تحقيق هذا التطور في منظومة القيم والمعايير هو "رهن بتغيير جوهري في التنظيم المجتمعي، وبوجه خاص في أنساق الحكم..." ومن دون ذلك "يصبح الحديث عن التنمية بوجه عام، والتنمية الإنسانية بوجه خاص، أشبه بالنقش على الماء".
ولأن نجاح عملية الإصلاح البحرينية يعتمد على تكامل جهود وممارسات الأطراف الثلاثة الرئيسية المعنية بالعملية الإصلاحية، أي الأفراد والمؤسسات المدنية والدولة، نرى إنه كان لزاماً على الدولة الإعلان عن منظومة قيمها ومعاييرها الجديدة المتوافقة مع ما هو مطروح من تغيير نهضوي، من خلال سياساتها على مختلف المستويات، لتفتح الآفاق أمام الأفراد والمؤسسات بتشكيل قيمها ومعاييرها الجديدة خارج دائرة الإحباط والسلبية.
ولأننا دولة ومجتمع وأفراد بحاجة قصوى لإمتلاك منظومتنا من القيم والمعايير التي ستشكل مدنية المجتمع البحريني حسب القواعد والتشريعات الديمقراطية التي جاءت في الدستور، وبرؤية معمقة بضرورة إنجاح تجربتنا الإصلاحية، لكل ذلك، سوف نبدأ بطرح بعض الشواهد الحية التي تؤكد بإن منظومة القيم والمعايير السلبية القديمة لازالت متحكمة في أداء وسياسات السلطة من جانب، والمجتمع والأفراد من جانب آخر، لغاية هذا اليوم، ونحن على أعتاب المرحلة الثانية من تجربة الإصلاح في البحرين...
فتابعوا تلك الشواهد في كتاباتنا القادمة...


كلمات دالة: