صناعة الأكاذيب من التقاليد الليبرالية

"لويس ليبي"، المدير السابق لمكتب نائب الرئيس الامريكي "ديك تشيني"، والمتهم بالادلاء بشهادة كاذبة في قضية تسريب اسم العميلة السرية في وكالة الاستخبارات الأمريكية "فاليري بليم" إلى الصحافة... والعميلة السرية "فاليري" هذه هي زوجة "جوزيف ويلسون" الدبلوماسي الأمريكي السابق ورئيس لجنة التحقيق الذي أكّد كذب المعلومات التي سربتها الإدارة الأمريكية حول حصول العراق على اليورانيوم من نيجيريا... وفي هذه القضية يحاكم "ليبي" بتهمة عرقلة سير العدالة وتهمتين بحنث اليمين وتهمتين بالادلاء بشهادة كاذبة انتقاما من "ويلسون" بعد تصريحاته التي انتقد فيها قرار الادارة الامريكية شن الحرب على العراق (لاحظوا عدد الأكاذيب وتسلسلها في هذه القضية)... وقضية "ليبي" هذه، التي نبدأ بها مقالنا، هي حلقة صغيرة في سلسلة الأكاذيب التي صنعتها وتبنتها الإدارة الأمريكية والبريطانية بهدف الوصول إلى تدمير العراق وإحتلاله لسرقة موارده النفطية.


بدأت تلك الأكاذيب تطفو على السطح شيئاً فشيئاً مع تعمّق أزمة الولايات المتحدة في العراق، ومع تزايد عدد القتلى الأمريكان ووصول جثثهم إلى ذويهم، وبعد الزيادة الخيالية في عدد الجرحى في الجيش الأمريكي وتخفيض الميزانيات المخصصة لمؤسسات المحاربين القدامى التي تعمل على إعادة تأهيل هؤلاء الجنود بعد تحوّلهم إلى عالة على مجتمعاتهم، ومع تزايد الأزمات الاقتصادية الأمريكية التي أدت إلى تخفيض ميزانية الصحة والتعليم لصالح دعم ميزانية البنتاجون والحرب في العراق، وأدت إلى شل القدرات الأمريكية في مواجهة الكوارث الطبيعية التي تحل على مدنهم ومواطنيهم، وبعد تصاعد وتزايد الكراهية العميقة ضد الولايات المتحدة الأمريكية في كل أنحاء العالم... مما دفع بالحزب الديمقراطي الأمريكي للمطالبة بفتح ملف وكالة الاستخبارات الأمريكية (السي آي أي) وملفات الأكاذيب التي أعلن عنها الرئيس بوش وطاقمه طوال الفترة السابقة لغزو العراق ونسبت مصادرها إلى تلك الوكالة الاستخباراتية، وحصل الحزب على الموافقة ذلك التحقيق الذي بدأ يوم 3 نوفمبر 2005 خلف الأبواب المغلقة، بعيداً عن الإعلام، وذلك بعد مرور ما يقارب ثلاثة أعوام على الحرب الإجرامية الإحتلال البشع واللاإنساني لشعب وأرض العراق... فياترى هل جاءت تلك الأكاذيب من فراغ أم تم صنعها؟... وهل حقاً تلك الوكالة الاستخباراتية تعمل بهذه الركاكة التي لم تتمكن من رصد الحقائق التي هي بوضوح الشمس قبل الدخول في تلك الحرب الدامية؟، أم إن تلك الأكاذيب نسبت إلى ذلك الجهاز لحماية أطراف أخرى؟. لمعرفة جزء من الحقيقة، أو بعض الإجابات على هذه الأسئلة ننشر هنا ما جاء بهذا الخصوص في كتاب "سراب السلاح النووي العراقي، مذكرات وأوهام" للعالم العراقي المعروف الدكتور عماد خدّوري (منشورات الدار العربية للعلوم 2005).
يقول الدكتور خدّوري في كتابه "حفزتني القناعة بخلو العراق من أسلحة الدمار الشامل بالتنقيب عن خلفية الخلل الذريع في المعلومات المخابراتية وتأجيج أجهزتها للمعلومات المضللة التي سبقت إحتلال العراق، وأدرجتُ ما توصلت إليه في مقالة "غلق دائرة الأكاذيب" المنشورة في شهر آب من العام 2003 على موقع الانترنت الإنجليزي لقناة الجزيرة العربية" (ص 284)... ويشير الكاتب في هذا المقال إلى إن دوائر المخابرات الغربية والإسرائيلية لم تكن تدرك أو تستوعب مدى تطور برامج العراق في الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية أو مدى امتلاك العراق لتقنيات هذه البرامج، خلال فترة الثمانينيات، لذلك لم تكن تعلم حجم ما دمره العراق بنفسه من هذا البرنامج وتقنياته بعد حرب 1991 مباشرة، ويشير الكاتب إن السبب في ذلك الفشل المخابراتي الغربي يرجع إلى "عدم تمكنهم من إختراق السور الأمني المحكم الذي احيطت به هذه الفعاليات، وإفتقار وجود جواسيسهم على الأرض داخل هذه البرامج، فلم يحصلوا على الصوة الحقيقية لما جرى قبل عام 1991، وما جرى بعد حرب 1991"..
مع وصول بوش الابن للبيت الأبيض جاء معه المخططين الرئيسيين لسياسات اليمين المحافظ، وبدأت الأحداث تتتابع على العالم لتهيئ المسرح وتفتح الأبواب للوصول إلى الأهداف المرصودة في مشاريعهم... فيواصل الدكتور خدّوري قائلاً: "عقب أحداث الحادي عشر من أيلول من العام 2001، كوّن وزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) ونائبه (بول وولفويتز) هيئة مخابراتية عليا من مجموعة صغيرة من أنصارهم من المحافظين الجدد وأطلق عليها إسم مكتب الخطط الخاصة (Office of Special Plans)، وكان الهدف الرئيس لهذه المجموعة المُنتقاة من العقائديين هو إعتراض تدفق المعلومات المخابراتية من وكالة المخابرات المركزية CIA ومثيلتها العسكرية وكالة مخابرات الدفاع Defense Intelligence Agency، وإنتقاء فقط ما ينسجم منها مع تطلعات وسياسات المحافظين الجدد المتواجدين في أعلى مراكز الإدارة، في البيت الأبيض والبنتاجون وفي مكتب نائب الرئيس تشيني، وقد اعتمدوا في ذلك كثيراً على المعلومات الملفقة التي كان يقدّمها المؤتمر الوطني العراقي برئاسة أحمد الجلبي إلى وكالة المخابرات الأخرى"... ويواصل الكاتب قوله "شغل (أبرام شولسكي) مركز مدير مكتب الخطط المخاصة، وهو الخبير الأكاديمي في أعمال الفيلسوف السياسي ومُلهِم فكر المحافظين الجدد (ليو ستراوس)... كان (أبرام) قد خدم في البنتاجون بإشراف مساعد وزير الدفاع (ريتشارد بيرل) خلال فترة رئاسة ريغان، ثم التحق بعدها بمؤسسة (راند)، حضينة أفكار اليمين العسكري الأمريكي. في نهاية خريف عام 2002 ارتفعت مكانة مكتب الخطط الخاصة في سلّم أولويات المعلومات المخابراتية التي كانت تصل مباشرة إلى الرئيس بوش بدون تقييم آخر لها من قبل وكالة المخابرات المركزية ووكالة مخابرات الدفاع، مما فتح المجال لمكتب الخطط الخاصة في انتقاء فقط ما يحلو له من المعلومات التي تدعم حصول العراق على أسلحة الدمار الشامل واتصاله المزعوم مع القاعدة" (ص 285-286).
وهكذا تواصلت صناعة سلسلة الأكاذيب التي رصدها الكاتب واصفاً إياها بالمعلومات المغلوطة والملفقة التي اخذت طريقها من خطابات بوش ورامسفيلد وتشيني إلى عموم الشعب الأمريكي وإلى العالم... لتأتي بالحرب والإحتلال الأمريكي إلى العراق ومعهما اللجان التفتيشية الخاصة التي أثبتت مراراً وتكراراً إن كل تلك المعلومات كانت أكاذيب ملفقة... (ولمعرفة المزيد يمكن الرجوع للكتاب).
فيا ترى هل توقفت مصانع الكذب الأمريكية والبريطانية والغربية عن صناعة الأكاذيب؟... أم إن هذه الأنظمة الليبرالية، التي بنت حضارتها الغربية من ثروات الشعوب المستضعفة، ترى في تَوَقّف مصانع الكذب هذه نهاية لحضارتها المادية المبتذلة والمعتمدة على سلب العقول والشعوب وليس بنائها؟!!.