"شفافية" الرقيقة كاترينا تكشف الأقنعة

"اللهم لا شماتة..."
مع كل حدث من الأحداث العظام يتكشف للعالم زيف المجتمعات الغربية التي تعيش وراء أقنعة متعددة الأشكال والألوان بعدد الادعاءات والأكاذيب التي سخرت لها الإعلام العالمي للتلاعب بعقول باقي شعوب العالم وتمرير سياسات الغرب الاستعمارية...
ومع كل حدث من ذلك النوع، سواء ما كان منها من صنع البشر أو الطبيعة، في بلدان الغرب الاستعمارية يقع قناع من تلك الأقنعة ليظهر الوجه القبيح لسياسات تلك الدول، وتتضح الحقيقة البشعة عارية خلف كاميرا الإعلام الغربي الأكثر كذباً وتزييفاً في العالم.
هذا ما حققه، بكل "شفافية"، إعصار "كاترينا" في ولاية نيوأورليانز الأمريكية التي ينحدر ثلثي سكانها من أصول أفريقية يعصف بهم الفقر إلى ضعف المستوى القومي، و40% من أطفالها يعيش في فقر مدقع، لما تعاني منه الولاية من نقص شديد في الأموال والتعليم والخدمات الصحية... كشفت "كاترينا"، بشفافية لا تعرفها الديمقراطيات الغربية، عن حجم كارثة تلك الولاية السوداء والمتضررين منها وطريقة التعاطي الرسمي معها لتكشف أولاً: عن التمييز العرقي والعنصري والوضع الاجتماعي والاقتصادي المأساوي الذي يعيشه سكان الولاية في الدولة الأعظم قوةً والأعلى صوتاً في المطالبة بحماية حقوق الأقليات والأثنيات ودمقرطة دول "الشرق الأوسط الكبير"، وثانياً: عن مدى اعتماد دول الغرب (الديمقراطية) على الكذب، والكذب، والكذب لإسناد أدوارهم الاستعمارية في العالم، وثالثاً: كيف يعصف الله بالإمبراطوريات التي قامت على جثث ودماء وعذابات الآخرين... ونحن المؤمنون برب العالمين... نتحدث إلى أمواج كاترين... وان كنا غير شامتين.. فهذه حكمته.. وعقابه سريع للظالمين.


وكالمعتاد حاول الإعلام الأمريكي، في الأيام الأربعة الأولى، إخفاء الآثار المأساوية لتلك الكارثة الطبيعية، ومدى قصور الدولة الأمريكية بالتعامل مع الوضع الإنساني الكارثي هناك، فلم يتحمّل الرئيس بوش عناء التضحية بإجازته الطويلة لإدارة عمليات الإغاثة والإنقاذ، بينما كان يذرف الدموع وينزف قلبه دماً عندما كان يتكلم عن "مأساة الشعب العراقي في ظل النظام الديكتاتوري"... ولمدة يومين متواصلين كان الإعلام يصر على إن ضحايا كاترينا هم 54 فرداً فقط. استمر الأكاذيب حتى دوت أصوات الانفجارات وارتفع دخان الحرائق في الولاية مع اليوم الخامس، نتيجة تباطؤ عمليات الإنقاذ والانفلات الأمني الخطير وانتشار عصابات اللصوص والمجرمين وعمليات السطو والسرقات واغتصاب النساء والأطفال وقتلهم، وتبادل إطلاق النار مع الشرطة وقتل أعداد كبيرة منهم، وتراجع أكثر من 20% من قوات الشرطة عن أداء عملهم بعد أن خسروا كل شئ في الإعصار (دون أن نسمع نظريات رامسفيلد حول تبرير تلك الفوضى على أنها ضريبة الديمقراطية كما بررها في العراق بعد الاحتلال)، مما دفع الإعلام والمسؤولين المباشرين عن الولاية لرفع الصوت وإظهار الحقائق التي كشفت للعالم مدى زيف حرية التعبير الأمريكية.
وفجأة تدفقت المعلومات... إذ بعدد الضحايا يزيد على 10 آلاف قتيل في مدينة لويزيانا فقط وغالبيتهم من الأفارقة الفقراء الذين لم يتمكنوا من الرحيل، كما فعل السكان البيض، ولم تعمل السلطات الرسمية على إجلائهم لانشغال أعداد كبيرة من الحرس الوطني والطائرات والمروحيات بقصف الإبرياء في أفغانستان والعراق، وافتقار الوحدات الموجودة إلى الخبرة والتدريب لملأ الفراغ... وتغيرت الصورة لنرى الدمار شاملاً مساحة الولاية التي تضاهي مساحة بريطانيا، والخسائر تزيد على 100 مليار دولار، ومئات الآلاف من المشردين السود بلا مأوى أو أية مساعدات إنسانية، ومخاوف من انتشار الأوبئة عندما تطفو آلاف الجثث الغارقة والمنتشرة تحت الأنقاض مع انحسار المياه التي أغرقت الولاية... وكأننا أمام مشاهد تلك الحرب العدوانية التي شنتها القوات الأمريكية والبريطانية على الفلوجة لتقتل وتنشر الجثث والدمار وتمارس السرقة والاغتصاب في المدينة وتُشَرّد أكثر من أربعمائة ألف من سكانها... لذلك انتشر بين الجيش الأمريكي في العراق على إن ما حل على بلادهم هو "لعنة العراق".
ارتفع أصوات الناجين السود وممثليهم في البرلمان بالشكوى من الإهمال واللامبالاة التي واجهتها ولايتهم إشارة إلى السياسة العنصرية التي يلاقيها الأفارقة في الولايات المتحدة، وهم يتذكرون المساعدات التي وفرتها الدولة لسكان فلوريدا (البيضاء) عندما تعرضت الولاية لإعصار أقل دماراً في بداية فترة رئاسة جورج بوش، بدءاً بعمليات إجلاء السكان وانتهاءاً بسرعة وصول المساعدات وإعادة الإعمار... وتم توجيه الإدانة الكاملة للدولة بالإهمال وتهميش السود وإقصائهم عن مواقع صنع القرار... فياترى هل هذه هي الديمقراطية التي ستصدّرها الإدارة الأمريكية للعالم العربي لرعاية حقوق الإنسان والأقليات والأثنيات في مشروع الشراكة الشرق أوسطية ومشروع الشرق الأوسط الكبير؟..
أما المستور الآخر الذي كشفته شفافية كاترينا هو مهزلة اقتصاد الدولة العظمى الأولى في العالم... إن عجز وفقر الولايات المتحدة في توفير المساعدات الإنسانية المطلوبة لهذه الولاية المنكوبة يكشف بوضوح إن الإدارة الأمريكية "الشفافة"، إضافة لما تنهبه من موارد شعوب العالم الثالث، فإنها تأخذ من قوت أبناء شعبها الفقراء لتوزع المليارات من الدولارات كمساعدات للأنظمة العميلة لها في منطقتنا العربية وباقي دول العالم الثالث، ولتدفع خمس مليارات دولار شهرياً لتمويل حربها ضد المقاومة في العراق، ولتوفر الثراء والرفاه لعدد من دافعي الضرائب البيض... لذلك أصبحت في مواجهة آثار كاترينا مثل بنغلادش، بحاجة للمعونات الاقتصادية... ومن المفارقات المضحكة أن تتبرع سريلانكا للولايات المتحدة بمبلغ 25 ألف دولار، والصين بمجرد 5 ملايين دولار... وبينما لم تحرك الدول الأوروبية ساكناً، عدا 200 مليون برميل الذي تبرعت بهم فرنسا وألمانيا من مخزون النفط الاحتياطي، فقد تبرعت دولة قطر الشقيقة بمبلغ 100 مليون، والكويت 500 مليون (نصف مليار دولار)... وهذه الأرقام بحاجة للكثير من التأمل.
وأخيراً يمكن أن نوجز العبثية التي كشفت عنها كاترينا بنص الرسالة التي وجهها المخرج الأمريكي مايكل مور للرئيس بوش قائلاً: "عزيزي السيد بوش... هل لديك أدنى فكرة عن مكان وجود كل مروحياتنا؟... إن آلاف الأشخاص ما زالوا في وضع حرج في نيوأوليانز وتتحتم إغاثتهم جوياً. أين وضعت كل مروحياتنا العسكرية؟، هل تحتاج إلى مساعدة للعثور عليها مجدداً؟، فقدت مرة سيارتي في موقف للسيارات وأعرف إن هذا مزعج... وهل تعرف أين جنودنا والحرس الوطني؟ إنهم ربما يكونوا مفيدين جداً في كارثة من النوع التي تدربوا تحديداً لمواجهتها... سيحاول البعض تسييس هذه المأساة واستخدامها ضدك (...) فتجاهلهم. وفي الختام عليك المواظبة، وحاول أن تجد لنا بعض المروحيات العسكرية لترسلها إلى موقع الكارثة، وتصرّف كما لو أن هؤلاء الأشخاص في نيوأورليانز وعلى الساحل الجنوبي هم بالقرب من تكريت في العراق".