قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (9)- مقاومون لا إرهابيون

كانت المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية هي أولى المقاومات الوطنية التي أطلق عليها صفة الإرهاب من قبل المحتل لخلط الأوراق وتشويه صورة المقاومين... إلا إن "الحرب على الإرهاب" التي أعلنتها الإدارة الأمريكية، وكل ما يعيشه العالم من إفرازات تلك الحرب من فوضى وعدم استقرار أمني خطير، فهي استراتيجية أنجلو-أمريكية تم البدء بتأسيسها منذ ثمانينيات القرن الماضي، لتحل محل الحرب الباردة التي كانت مكان ابتزاز دول الخليج العربي، الغنية بالموارد النفطية، من قبل الاستعمار الغربي عموماً.
يذكر البروفيسور هيثم الناهي في كتابه "السياسة النووية الدولية وأثرها على الشرق الأوسط" إن الولايات المتحدة كانت تراقب الحقائق البترولية في منطقة الخليج بضفتيها، و"تتخذ حلاً لكل خطوة بعد خطوة وتحرص على إنجازها بنجاح، كي لا تفاجأ بما لا يحمد عقباه". إلا إن القوة الأمريكية الجديدة والصاعدة حينها قد بدأت تفكر بأساليب جديدة تجعلها قادرة على تأمين نفط الخليج لصالحها، منذ عام 1965، عندما أنشأت أول قواعدها العسكرية لحماية منشآتها النفطية في المملكة العربية السعودية. "إلا إن الصورة الجدية في العمل الأمريكي بدأ يأخذ صورة الحقيقة بعد حرب عام 1967، عندما صرّح رئيس الوزراء العراقي الأسبق (طاهر يحيى) بضرورة استعمال البترول كسلاح" ضد الغرب الذي يدعم العدو الصهيوني لإجباره على الانسحاب من الأراضي المحتلة. إلا إن إيقاف تصدير النفط العربي لأيام معدودات، أثناء حرب 1973 ضد إسرائيل، وما رافق ذلك من ارتفاع مفاجئ في أسعار البترول، أعطى مبرراً واقعياً للمخاوف الأمريكية والغربية عموماً، باحتمال تحكّم العرب في إنتاج وتصدير وأسعار هذا المنتج الحيوي...

"وكان هو الأساس الذي غَيّر الاستراتيجية الغربية نحو منطقة الخليج العربي بصورة مذهلة...، ... حيث تغيّرت خطتها الاستراتيجية من العمل على احتواء التصدع وحماية الأنظمة الحليفة لها في المنطقة، إلى العمل على تنفيذ خطة استراتيجية أكثر خطورة وأهمية لمستقبل مصالحها"... فجاء تصريح هنري كيسنجر لصحيفة الواشنطن بوست في 7 ديسمبر/كانون أول 1973 قائلاً إن "قرار رفع الدول المنتجة للبترول لسعر النفط اليوم، يعد من أهم الأحداث المحورية في تاريخ القرن الحالي، وعلينا معالجتها بسرعة قبل أية قضية تعتبر مهمة في كياننا".
خلال تلك الفترة من الحرب الباردة بدأت الفكرة الأمريكية باحتلال منطقة الخليج للسيطرة على آبار النفط، إلا إنها اكتفت بالتهديد العلني واتخاذ إجراءات طويلة يُؤَمّن لها تلك المصالح، خارج إطار الاحتلال المباشر خوفاً من القوة النووية السوفيتية حينها، بدءاً بعمليات بناء قوات التدخل السريع الذي بدأت كفكرة ودراسة كلّفت بوضعها مؤسسة أمريكان انتربرايز عام 1976 من قبل الحكومة الأمريكية، لتنتهي آخر ترتيباتها وتدريباتها في عام 1990، مما يؤكّد إن فكرة الاحتلال المباشر بقيت ضمن العقيدة العسكرية الأمريكية منذ ذلك الوقت، وتم الاستعداد الكامل لتنفيذه في الوقت المناسب، كما جاء بوضوح على لسان الناطق بإسم وزارة الدفاع الأمريكية (البرت وولستر) في عام 1975 بتأييده وتشجيعه على احتلال المنطقة العربية "ولكن بعد خلق أسباب وحروب تعزز تدخلنا (الأمريكي) كدعاة سلام لا احتلال".
ولكن بدأت الأمور تأخذ مجرى آخر مع بدء مفاوضات الحد من انتشار السلاح النووي بين الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، والرئيس السوفييتي جورباتشوف، وما رافقها من بوادر أوحت للإدارة الأمريكية ببداية انهيار القطب السوفييتي. فجاء تصريح ألكسندر هيج، وزير الخارجية الأمريكية حينها، للصحفيين في 28 يناير/كانون ثاني 1981 قائلاً "ليعلم الجميع إن الإرهاب الدولي سيحل محل اهتماماتنا في حقوق الإنسان الذي كنا نتحدث عنه في الثمانين سنة السابقة"... وفي الحقيقة تم استغلال تلك السمعة الأمريكية المزيّفة في الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في تشريع قوانين الحرب ضد الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، مما يؤكد بأن الاستراتيجيات الأمريكية بدأت مبكراً لتأسيس مؤسسة الإرهاب في العالم لخلق عدو جديد يحل محل الشبح السوفييتي، والحرب على الإرهاب لخلق صراع جديد يحل محل الحرب الباردة، بهدف الحفاظ على أمن الولايات المتحدة وازدهارها، وتأمين سيطرتها على المناطق الحيوية لمصالحها.
إذن الحرب ضد الإرهاب هي تلك المعارك التي تفتعلها الولايات المتحدة على مختلف المستويات والجبهات ضد كل ما يهدد المصالح والسياسات الاستعمارية والإمبريالية الأمريكية، وكل من يقف ضد الإرادة والسياسات الأمريكية معرقلاً تنفيذ استراتيجياتها حتى تمكنت من الوصول إلى غزو العراق واحتلاله والوصول إلى أغنى منابع النفط وأطولها عمراً في العالم. ولهذا الهدف تم تدمير هيكلية الدولة العراقية بمؤسساتها ومصانعها وتشريعاتها وكوادرها وتاريخها وتراثها كما هم مستمرون في تدمير المجتمع العراقي بنسيجه المتكوّن عبر آلاف السنين لإلغاء وجود هذه الدولة تاريخاً، ومن ثم تفكيك تلك الآبار النفطية وامتلاكها من قبل الشركات الكبرى التي تدير سياسات الولايات المتحدة الأمريكية. ولأن مقاومة الاستعمار والاحتلال وجرائمه تعد من المحرمات في تشريعات مشروع الإمبراطورية الأمريكية (أو ما يدعى بقوانين الحرب على الإرهاب)، فوصفوا المقاومة في العراق بالإرهاب والمقاومين بالإرهابيين.
ولأن القوة الأمريكية الجائرة تفرض نفسها، خاف العالم أن يوصف الغزو والاحتلال الأنجلو-أمريكي للعراق بالسطو المسلح على دولة ذات سيادة، ولم يتجرأ العالم على وصف معسكرات الاعتقال الأنجلو-أمريكية في العراق بمعسكرات الإرهاب رغم كل ما يمارس بداخلها من إرهاب وتعذيب وحشي وممارسات لاإنسانية ضد عشرات الألوف من المعتقلين الأبرياء، ولم يعترض العالم على اجتياح وتدمير مدينة الفلوجة والنجف وسامراء والأنبار وحديثة والمدائن وغيرها من المدن العراقية المقاومة والرافضة للاحتلال...
إلا أن المقاومة العراقية التي بدأت وتكونت وأخذت شرعيتها من كل قطاعات الشعب العراقي، والتي تتألف من عشرات المجموعات القتالية وتعيش في كل البيوت والمزارع والمدن العراقية، وتذوب بين الناس، وتحارب في معارك تستمر لأيام وأسابيع في مواجهة أقوى قوة عسكرية في العالم، وتكبد العدو أكبر الخسائر في الأرواح والعتاد، وتمكنت من إغراق العدو في وحل الهزيمة وإفشال مخططاته، هذه المقاومة التي تؤمن بالله وبالتحرير، وهي كجذور نخل الرافدين، أثبتت خلال سنتين تفوقها عسكرياً، فأذهلت جيوش الغزاة وحكوماتهم ومتآمري دول الجوار، وانتزعت اعترافات قادة العدو بقوتها وسلاحها وتطورها المستمر، رغم إنه لا يسمح إلا بعرض واحد بالمائة من عملياتها في الفضائيات، ورغم ما يحاول أن يلصق بها من أكاذيب لتشويه أهدافها وصورتها البطولية الحقيقية...
فهل هؤلاء مقاومون أم إرهابيون؟.
بل هؤلاء هم شباب رافدان المجاهدين الذين لا يخافون في الحق من لومة لائم... وهم من تتوجه إليهم أبصار الشعب العربي وآمالهم بالنصر والتحرير ومستقبل الأمة ونهضتها.