الدراسات المستقبلية وبناء الدول

اعتمدت الدول المتقدمة في بناء خططها التنموية والسياسية، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، على الدراسات المستقبلية (الاستراتيجية)، التي تعتمد على نمط التفكير الاستراتيجي الذي يتوقع التغيرات الجذرية الحالية والمستقبلية وتأثيراتها على تطور المشروع أو البرنامج المطلوب تحقيقه على مدى فترة زمنية يتم تحديدها على أساس علاقتها بالماضي والحاضر، ومن هذه الدراسات تنشأ عدد من الحلول التي يمكن استخدام أفضلها في الخطط الرئيسية والفرعية والبديلة والطارئة بالتتالي، أي هي دراسات تعتمد مدخلاتها على التعددية في التفكير المستقبلي، وفي المجالات المستقبلية المطلوب دراستها، فتكون مخرجاتها تعددية في النتائج والحلول. أما الرديف المعاكس لهذا النمط من التفكير فهو التفكير الخيطي، والذي يعتمد على معادلة خيطية مستقيمة تمتد من الماضي إلى المستقبل، دون دراسة المؤثرات التي يمكن التدخل بها وتوجيهها وتطويرها حسب إرادة أصحابها، فيوضع التوقع للسنوات العشر القادمة اعتماداً على أسس حسابية خيطية للسنوات العشر الماضية، وهذا ما يجعل دائرة الفكر أو آفاقه مغلقة على نتائج محدودة وغير مرنة في التعامل مع الشئون الكبرى التي لا تتسع لها الدوائر أو الآفاق الفكرية المغلقة بإحكام...
وبناءاً على هذا التباين بين أنماط التفكير والتخطيط يمكننا أن نعرف لماذا حكم على أمتنا العربية أن تبقى في دائرة التبعية للأمم المتقدمة... إذ إن إلزام الأمة بالبقاء خارج منظومة التخطيط الاستراتيجي كان سبباً في تخلفها المعرفي الذي أدى إلى تخلفها عن السباق التاريخي المتسارع بين الأمم نحو المستقبل الذي يرسمون متغيراته بفكر استراتيجي، لذلك تم رهن مستقبلنا ومصالحنا لدى الغرب بما يملكوه من دراسات استراتيجية كاملة حول حاضرنا، وماضينا، وتاريخنا الذي يحاولون محوه.


وبناءاً على هذا التباين بين أنماط التفكير والتخطيط يمكننا أن نقيس لماذا تتقدم الأمم ويتخلف العرب، إذ يؤكد الباحثون إن الوطن العربي من المحيط إلى الخليج يخلو من مركز واحد لهذا النمط من الدراسات الاستراتيجية (المستقبلية) في أي شأن من الشئون، حتى في التنمية، التي يكثر القادة العرب الحديث عنها مؤخراً تحت بند التنمية المستدامة، فهي تسير بدون خطط استراتيجية فتكون نتائجها باستمرار دون توقع الشعوب، لما تعترض مسيرتها من كبوات مستدامة تؤدي لتخلفها عن العصر وبالتالي إلى هدر الثروة العربية...

ولمعرفة مدى التقصير العربي في التفكير الاستراتيجي، علينا أن نبحث في الوضع العربي الراهن الذي ينذر الأمة بمستقبل حافل بالمزيد من التخلف والتبعية، والرجوع إلى دراسة الماضي العربي القريب في أحد أهم مفاصله التاريخية الذي كان ولايزال سبباً في تراجع هذه الأمة بمنهجية علمية تسير مع صيرورة تقدم وتطور الغرب عبر التاريخ... بالرجوع إلى بدايات الحروب الصليبية، والتي لم تتوفر في المراجع العربية حتى اليوم أية دراسات معمقة حول دوافعها الحقيقية التي قد توصلنا إلى نتائج هامة وخطيرة، حول هل فعلاً انتهت هذه الحروب؟، كما علّمونا في كتب المدرسة، بعد آخر حملاتها التي هزمها القائد العربي صلاح الدين الأيوبي... أم إنها استمرت ولكن في شخوص ومظاهر ونزاعات مختلفة، فرضت على المنطقة ضمن استراتيجية طويلة المدى، تقاس بعمر الأجيال والقرون، حتى وصل حال الأمة للتبعية المطلقة للغرب في عصرنا هذا... وما بعد هذه التبعية المطلقة إلا الإحتلال المباشر الذي بدأ بفلسطين قبل أكثر من نصف قرن ووصلوا إلى القدس والعراق قلب الأمة الإسلامية والعربية.
نعم، هذه الحروب لم تتوقف، وإنما رجعت تلك الحملات منذ قرون في صور مختلفة، بدءاً بحملات المستشرقين وما كشفوه من أسرار الشرق ومعرفة نواقضه ودراسة مجتمعاته بتعمق وتفصيليات يعجز العرب من ذكرها وسردها، وما أسس المستشرقون من خلافات دينية ومذهبية وسياسية وعربية في كل أرجاء المنطقة، بشتى وسائل الإختراق لدور العبادة للأديان والمذاهب المختلفة في أرض الرسالات السماوية لإفساد المؤسسات الدينية الإسلامية من ناحية، وإختراق مختلف المؤسسات السياسية الحاكمة وللعشائر والقبائل الرئيسية المنتشرة على أهم البقاع العربية، وللمجتمعات العربية الحضرية والريفية على كل المستويات لتأسيس الشروخ الكبرى في الهوية العربية والقومية من ناحية أخرى... وملكوا بذلك كل مفاتيح القوة التي مكّنَت الغرب من التحكّم بزمام المنطقة من داخلها. وجاءت الحملات الأخرى بعد ذلك في شكل الاستعمار والتقسيم والاحتلال والاستيطان، ومن ثم في التعليم والاقتصاد والتخطيط... وهلم جرا!!!... أما أهم الحملات التي بدأت ولم تنتهي حتى الآن فهي حملة الغزو الثقافي والإعلامي التي بدأت مبكراً ولازالت موجهة على جميع المستويات الرسمية والمدنية، والشارع العربي بأكمله، باستراتيجية محكمة، للقضاء على كل مظاهر العنف والرفض لهذه الحروب الصليبية التي تتناوب الأقطاب الغربية على قيادتها وتتعاون في أدوارها.
وبهذا يمكن التأكيد على أن الحروب الصليبية المباشرة قد توقفت عند حملة صلاح الدين الأيوبي لتبدأ حملاتهم الممنهجة في أطوار ومظاهر متعددة، بهدف إضعاف وإخضاع هذه الأمة ونهب ثرواتها لإنعاش العالم الغربي الذي لا يشبع... ولأن تفكيرهم استراتيجي، تمكنوا من تحقيق أهدافهم، في إضعاف هذه الأمة وإخلائها من أي قيادة تاريخية تلتف حولها الجماهير العربية، إلى أن حان وقت الحملات العسكرية المباشرة فجاءت مرة أخرى تحت راية الصليب إلى العراق في مخطط توسعي إلى كل المواقع النفطية والاستراتيجية من هذه الأرض المنكوبة...
وبعد كل ذلك، ومع هذا العجز العربي المتفاقم، هل يمكننا أن نؤمن بأي نوع من العلاقات العربية الغربية المنصفة لحقوقنا ومصالحنا وأمننا، دون أن نملك أية أدوات تحدد شروط هذه العلاقات... وهل يمكن أن نأمن جانبهم معتقدين بأنهم سيحمون أمننا القومي... حتى بالفكر الخيطي؟!