النصر دائماً للشعوب

في 27 يناير/كانون الثاني 1973 وَقّعت الولايات المتحدة الأمريكية على "اتفاقية باريس" التاريخية معلنة انكسار وانهزام قواتها الغازية في مواجهة الشعب الفيتنامي المقاتل بعد حرب استمرت 19 عاماً (1954-1973) بهدف إحتلال فيتنام، قاتل الفيتناميون فيها الغزاة بأسلوبهم الخاص فتحقق لهم النصر وكرّسوا مبدأ رضوخ الغزاة لإرادة الشعوب...
وفي 19 أبريل/نيسان 1975 اخترقت مدرعات القوات الفيتنامية المحررة مقرات النظام العميل للولايات المتحدة في سايغون لتعلن الانهزام النهائي للإمبريالية الأمريكية في فيتنام، ولتترجم عملياً المبدأ الحتمي للسيادة الوطنية وحقوق الإنسان "النصر دائماً للشعوب"...
ولكن كيف وصل هذا الشعب المقاتل إلى ذلك النصر الذي سطّر إسم الشعب الفيتنامي في التاريخ بخطوط من نور... هذا ما يتجاهله الإعلام العالمي بهدف محو وصمة العار الأزلية التي لحقت بالقوات الأمريكية الأقوى في العالم، إلى حين تمحو هذه القوات عارها في حروب أخرى لم تتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا... فقادهم حظهم العاثر إلى حرب أخرى في العراق لا تقل شراسة وعنفاً ودموية عما واجهوه في فيتنام...
سنوجز هنا بعض أوجه التشابه بين الحرب الفيتنامية والحرب العراقية ضد الأمريكان؟!.


بدأت الولايات المتحدة حربها ضد الشعب الفيتنامي بقوات جوية وبرية وبحرية يصل عددها إلى 100 ألف جندي، إضافة إلى أعداد هائلة من قوات النظام في "سايغون"، وهي تقابل ما تسمى في العراق اليوم بـ "القوات العراقية"، مسلحة بأحدث أنواع الأسلحة، وأشدها فتكاً وتدميراً، فكانت فيتنام الديمقراطية تواجه أكثر من 500 غارة جوية يومياً في عام 1967، فتم تشبيه الأجواء الفيتنامية ببحيرة أمريكية تسبح بها الطائرات، وتم قصف كل مدن فيتنام بدون استثناء، مع التركيز على المناطق المأهولة بالسكان والمناطق الحيوية، فكانت حرب إبادة كاملة ضد الشعب الفيتنامي. ولكن المفاجأة التي أقرتها الوقائع المتتالية في تلك الحرب كانت على عكس ما توقعها خبراء الاستراتيجية السياسية والعسكرية في البيت الأبيض والبنتاجون، حيث ازداد انخراط الشعب الفيتنامي في صفوف المقاومة الشعبية الفيتنامية وازداد هذا الشعب إصراراً على الصمود وإلحاق الهزيمة بالعدو كلما ازدادت حملات الإبادة الأمريكية ضده... وهذا ما يحدث في العراق بالضبط منذ بدء الغزو والإحتلال مع التطور والتوسع السريع والنوعي في أعمال المقاومة... بالمقابل كانت الزيادة في الغارات الجوية والإصرار على قصف المناطق الآهلة بالسكان والمنشآت الحيوية المؤشر الأول على هزيمة القوات الأمريكية في فيتنام، وهذا ما يحدث في العراق... وبجانب الإبادة الجماعية للشعب الفيتنامي، كان الغرض من تلك الغارات هو تخفيف الضغط على المعارك الأرضية التي كانت تستنزف القوات الغازية بشدة، وهذا ما يحدث في العراق. أما الأهم من كل ذلك هو إن الفيتناميون كانوا يسقطون مختلف الطائرات، المحملة بالنابلم والقنابل الكروية والحارقة والشديدة الانفجار، من على ارتفاع 20 ألف متر تقريباً، حتى بلغ عددها إلى 300 طائرة في عام 1965، وحوالي 3353 طائرة في عام 1970، وهذا ما يحدث في العراق أيضاً.
ولكن رغم إن المقاومة الفيتنامية أكدت لجنرالات البنتاجون، حينها، إن كل القوة العسكرية الأمريكية لن تنتصر للوصول إلى فرض الاحتلال على هذا الشعب، إلا إن أصحاب القرار في البيت الأبيض ومراكز إدارة الإحتكارات الاقتصادية الأمريكية المتعاملة بإنتاج وترويج الأسلحة لم يرضخوا لهذا الأمر الواقع، كما لم يرضخوا للشارع الأمريكي الذي ظهر بالمظاهرات العاصفة احتجاجاً على الحرب وسياسة واشنطن والدعوة إلى عودة القوات الأمريكية من فيتنام، ولم يأخذوا في حسابهم مغادرة عشرات الالوف من الشباب الأمريكي لبلدهم هرباً من التجنيد... وهذا ما يحدث بالنسبة للحرب في العراق.
واعتبر البيت الأبيض إنه أمام تحدي مصيري، فأصبح كل شئ مباح في تلك الحرب، وتم تصعيد حملات الإبادة والقتل الجماعي بقصف الفيتناميين بالغازات السامة بجانب النابلم والقنابل العنقودية حتى لو كان في ذلك إبادة للقوات الأمريكية الموجودة على الأرض، وأصبح الجندي الأمريكي "يقصف كل شئ يتحرك"... وهذا هو واقع الحال في العراق اليوم. أما البنتاجون فقد كان يهدف من وراء ذلك إلى إخضاع الشعب الفيتنامي وفرض الأمر الواقع عليه لإجباره بالقبول بسياسات واشنطن، كما كان يهدف لرفع الروح المعنوية في صفوف القوات الغازية في ميدان القتال، وخصوصاً بتلك العملية التي اطلقت عليها الإدارة الأمريكية إسم "النصر الكامل"، كما يفعلون اليوم في العراق تماماً... بجانب كل ذلك كانت الإدارة الأمريكية تريد أن تثبت للعالم بإنها لن تخضع للإحتجاجات، بل ستُصَعّد من العنف كلما إزدادت وتيرة الاحتجاجات...
أليس التاريخ يعيد نفسه، فالغزو الأمريكي وأغراضه واستراتيجياته، والعقلية التي تسانده والأداء الذي يقدّمه في العراق هو نسخة طبق الأصل من الحرب الفيتنامية... وفي الجانب الآخر لا تختلف قوة وعنفوان وشراسة المقاومة الوطنية العراقية عن تلك التي كانت تعمل على أرض فيتنام قبل أربعة عقود... فرغم ما يُمارس اليوم من تعتيم إعلامي على عمليات المقاومة، وما تمارسه القوات الغازية من إبادة جماعية بمختلف الوسائل ضد الشعب العراقي، لتشويه صورة المقاومة، إلا إن هذا الشعب يعمل بإصرار لا ينقطع ضد الاحتلال ولن يفيد الإدارة الأمريكية دستوراً تفرضه، كما لم يكن لتلك الإنتخابات المشوهة، في يناير الماضي، من أثر في تخفيف أعمال المقاومة ضد قواتها.
إذن بقى أن ننتظر النتائج التي بكل تأكيد لن تكون مختلفة عن نتائج تلك الحرب في فيتنام، ومهما تعالوا على الحقيقة وتَنَكّرُوا لها، إلا إن النصر دائماً للشعوب... وكما قاتل الشعب الفيتنامي في معركة "ديان بيان فو" التي استمرت 52 يوماً قبل ان تحسم تلك الحرب لصالحه، بعد 19 عاماً من القتال الضاري، فنحن ننتظر معركة "ديان بيان فو" العراقية لحسم النصر للعراق، ولن نُكِلْ الانتظار مهما طال الزمن...