قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (12)- موقفها من الأنظمة العربية

مبكراً، وباستحياء، بدأ المحتلون الإعلان عن وجود المقاومة العراقية إلى أن وصل بهم الإمر إلى الإعتراف المتكرر بقوتها وجبروتها وعدم إمكانية القضاء عليها، ولم يكن لهذا الاعتراف أن يصدر لو لم تكن الحقيقة التي يعيشها الغزاة المحتلون في العراق أقسى وأخطر وأشرس كثيراً عما يعلنونه بنعومة متغطرسة في مؤتمراتهم الصحفية المزيفة. وهنا لا بد من التأكيد على إن كل الظواهر التي تتميّز وتنفرد بها المقاومة العراقية (ذكرناها في مقال سابق) عن المقاومات الوطنية التي ظهرت عبر التاريخ ضد المحتلين، هي نتاج الظروف التاريخية الفريدة من نوعها التي عصفت بالعراق والعراقيين خلال أكثر من ربع قرن، مما خلق في أعماق كل عراقي الإصرار على القتال لكسر هيبة القوة الاستعمارية الأمريكية والبريطانية في هذه الحرب التي "ليس لها حدود للمواجهة"، كما وصفها كيسنجر.
أما تلك الظروف التاريخية، التي عاشها العراق والعراقيون، فإن المقاومة أدخلتها ضمن منهجية دراسية تحت شعار "ندرس حاضرنا وتاريخنا لنكتب المستقبل مع الاعداء"، منطلقين من أبشع ما مارسه الأعداء ضدهم من جرائم ولاإنسانية وأكثرها شدة وبأساً على التاريخ القادم للأمة، كما جاءت مختزلة في نصوص وأدبيات المقاومة العراقية على إنه:
"لم يحدث عبر التاريخ أن اجتمعت كل دول الارض لتحاصر شعبا واحدا، بإسم قانون وأمر من اليهود، اثني عشر عاما ليموت مليونين من العراقيين، والعالم أعمى وأصم وأبكم...
ولم يحدث أن غزاة احتلوا دولة بحجة كاذبة ليستولوا على ثرواتها وينهبونها باسم القانون كتعويض لغزوهم قبل ثلاثة آلاف سنة...


ولم يحدث ان يتحول إسم (العراقيين) رمزا للوحوش تتجنبه الحكومات فلا تسمح لهم بالعيش، ولكن تسمح بقتلهم دون محاسبة، باستعمال كل الاسلحة المحرمه بما فيها الجوع والامراض والحصار والقذائف المشعه.
إحتلوا بلادنا وخلق المحتلون الفوضى، ودمروا الدولة، لسرقة ثرواتنا دون رقيب...
فلا تلوموا العراقية بعد الآن، اذا أرضعت وليدها حقداً وثأراً من الأعداء.. ولو بعد ألف سنة!، سنعلم العرب كيف نقاتل وننتصر مثل بغداد!، لأن التاريخ والمجد.. يصنع في بغداد، ولنا عهد الله سبحانه!".
هذه هي البدايات الأولى لأدبيات المقاومة، التي هي في قيد الرسم لتشكيل مستقبل العلاقة بين الشعب العربي وأنظمته الحاكمة، بعد أن رضخت هذه الأنظمة إلى الغزاة ومهدت الطريق لإحتلال أرض الرافدين. ولم تكتف بذلك بل لايزال أدائها مستمراً، فبينما يقاتل العراقيون على أرضهم، وأرواحهم على أكفهم، في أكثر المنازلات وحشية وشراسة ضد المحتلين الحاقدين، إذ بالانظمة العربية مسترسلة في تآمرها ضد العراق مقابل حفنة من الدولارات وضمانات ببقائهم على عروشهم... وبينما آلاف العلماء والمفكرين العراقيين وكل كفاءات العراق العلمية والإبداعية النادرة يبحثون عن ملجأ آمن لهم ولأبنائهم من عصابات الإغتيال الصهيونية والصفوية، فلا تجد حكومة عربية واحدة تقبل على احتضانهم وتأمين حياة كريمة وآمنة لهم... وبعد أن اكتسح الصفويون العراق ووصلوا إلى مشارف حدود عربية جديدة، إذ بالوزراء العرب يعلنون بهمس داخل قاعات المؤتمرات عن خوفهم على هوية العراق العربية، وليس ألماً أو حزناً لما يرتكبه الصفويون والأمريكان والإنجليز من جرائم يومية تدمي القلوب ضد العراقيين، ولا رحمة بهذا الشعب الذي يموت بالمئات كل يوم في مدنه وأحيائه تحت أقدام ومجنزرات الدبابات الأمريكية، وبالقنابل الحارقة والمشعة... فأي زمن هذا الذي يعيشه العرب في ظل أنظمة تخاف على عروشها ولا تخاف الله... إنه انحدار إلى القاع، فإما ان تبقى الأمة رازحة هناك وإما أن تنطلق مندفعة إلى القمة بقوة التصادم والطَرْق...
لكل ذلك، ولفشل كل تجارب بناء الدولة العربية القومية على أجزاء محدودة من الأرض العربية، ولإيمان المقاومة العراقية بخطر الدولة القطرية التي تمزق الإرادة العربية وتزيد من تبعيتها للأجنبي والمستعمر، فإن اهدافها لا تقف عند تحرير العراق، بل تمتد لبناء الدولة القومية وإطلاق المشروع النهضوي العربي من المحيط إلى الخليج... ولكل حادث حديث.
ومع تدفق المقاومين العرب بالمئات على العراق، رغم السياسات القمعية العربية ضدهم، تتشكل البدايات الأولى لمشروع المقاومة العربية على أرض الرافدين... وكل ما يرَوّج من حكايا حول معارك على بعض الحدود العربية ما هي إلا تغطية على أخبار هؤلاء الأبطال المتجهين إلى العراق، وتقبض الأجهزة الأمنية العربية على بعضهم لتسلمهم بيد الأعداء بدعوى التعاون في الحرب الكونية (الأمريكية) ضد الإرهاب...