أيها السادة أعضاء مؤتمر الدوحة الثالث لحوار الأديان نستميحكم عذراً...

في 30 يونيو 2005 انتهى "مؤتمر الدوحة الثالث لحوار الأديان"، وأقر المشاركون، بعد نقاشات الجلسة الختامية، المقترح القطري بإقامة "مركز أو مؤسسة" عالمية في قطر لحوار الأديان بهدف "تعميق المعرفة بالطرف الآخر وتعزيز ثقافة الحوار ومراجعة الموروثات التاريخية السلبية"، ودعا المشاركون جميع أصحاب الديانات السماوية إلى ممارسة النقد الذاتي لمواجهة التعصب وكراهية الآخر. أما الدكتور عبدالحميد الأنصاري، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قطر، فقد ركّز في المؤتمر على إن "علينا واجبا أخلاقيا في الوقوف ضد عدو مشترك للإنسانية جمعاء يتمثل في ترسيخ التعصب وعدم التسامح ونشر ثقافة الكراهية والمحاولات الساعية إلى فرض ثقافة واحدة أو دين واحد أو لغة واحدة أو حضارة واحدة أو نظام سياسي واحد" مشدداً على ضرورة أن "يتحلى كل طرف بشجاعة الاعتراف بأخطائه تجاه الآخر ثم يسعى مخلصا لتصحيحها"، لحل مشكلة العالم الإسلامي التي تتمثل "في غياب آلية تصحيح ومحاسبة" المخطئين باسم الدين، لإن الغربيين "يعترفون بأخطائهم أما نحن فلا"، لذلك "في الغرب يمكن للجاليات المسلمة، مثلا، رفع قضية في حال وجود تمييز، بينما "هذه الآلية غير موجودة في العالم الإسلامي"... ولأننا نعتبر رأي الدكتور الأنصاري ذو رؤية أحادية الجانب، لتجاهله الجوانب السياسية والتاريخية في هذه القضية برمتها، فإننا نرى من الضرورة توضيح بعض تلك الجوانب التي من شأنها تعديل مسار الحوار بين الأديان لصالح جميع الأطراف.


خلال قرن كامل عاش العالم العربي والإسلامي تحت أنواع مختلفة من التسلط الأوروبي الغربي... ففي الربع الأول من القرن الماضي بدأ البؤس العربي والإسلامي مع حملة سايكس بيكو الصليبي الذي تمكّن من تقسيم الارض العربية وتوزيعها بالقطعة على المستعمرين الغربيين، فحكم البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون والأسبان وغيرهم كل الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، وبدأ العمل الاستعماري الحثيث لتعميق التخلف العربي حضارياً وعلمياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فعينوا أنظمة وحكومات عميلة لهم بينما كانت الدوائر الاستعمارية في كل بقعة من هذه الارض تعمل على نهب مواردها الثرية وتحويلها إلى الغرب لتطوير واستمرار النهضة الغربية، بينما الشعب العربي يعاني من البؤس والأمراض والأمية... واستمر ذلك الوضع ما يقارب نصف قرن، ليبدأ عصر التحرر المزيف من الاستعمار في النصف الثاني من القرن، وما أن بدأت التحولات الجذرية في الوعي السياسي والمجتمعي العربي والإسلامي بالتشكّل حتى ثارت مخاوف المستعمر حول الثروات، فرسمت ماكينة العقل الغربي الاستعماري استراتيجياتها لإشعال سلسلة من الحروب في المنطقة... ومع بدء تشكّل النظام العالمي الجديد، أي مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين، وتحديداً في أغسطس 1990، عند بدء حرب الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق دخلت منطقتنا في عهد ما بعد الاستعمار، أو "ما بعد الكولونيالية" كما يسميه الاستراتيجي العربي المعروف، الدكتور المهدي المنجرة... فكانت حرباً ضروساً أخرجت العراق العربي، الأغنى والأكثر تقدماً علمياً، من الثراء وأحدث علوم القرن العشرين لترجع به إلى البدائية والفقر والبؤس، بذلك أعطى الاستعمار الأنظمة والحكومات في المنطقة درساً في عقاب كل من تسوّل له نفسه أن يعترض على الإرادة الاستعمارية الغربية، أو "ينتقدها".
ونتوقف هنا عن سرد باقي القصة التي لاتزال سارية ونشاهد ونعيش أحداثها لحظة بلحظة، حيث تم احتلال العراق بعد ثلاثة عشر عاماً من تلك الحرب والحصار، ولا يزال العراقيون يقتلون بكل آليات وماكينة القتل الوحشية الغربية بالمئات كل يوم، دون أن يسمح له حتى بالصراخ عبر الإعلام، ودون أن يرف للغرب جفناً أو يرق له قلباً... فأين ذلك التسامح والنقد والإعتراف بالخطأ لدى هذا الغرب المستعمر.
إن ما يحكم الغرب كحكومات وشعوب، لا علاقة له بالأديان وتسامحها، بل هو جوهر العقيدة والثقافة الاستعمارية في الفكر الليبرالي الغربي، الذي تم نشره على مدى قرون وعقود وأجيال، حتى تحوّل إلى سلوك وإرث وتقليد سائد في تلك المجتمعات... وفي هذا المجال كتب روبرت كوبر، مستشار توني بلير للسياسة الخارجية، تعريفاً لتلك العقيدة في مقالة بعنوان "الدولة في العصر الحديث" (2002) يقول فيها "إن التحدي أمام عالم العصر الحديث أن يعتاد على فكرة المعايير المزدوجة... ففيما بيننا (ويقصد المجتمعات الغربية)، نتعامل على أساس القوانين وأمن تعاوني مفتوح، ولكن حين نتعامل مع دول ذات طراز قديم خارج قارة أوروبا الحديثة، نحتاج اللجوء إلى طرق خشنة تنتمي لعهد سابق: القوة، هجوم وقائي، خداع، وكل ما يلزم للتعامل مع أولئك الذين لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر، في كل دولة بعينها... وفيما بيننا نحافظ على القانون، ولكن عندما نعمل في الغابة (ويقصد دول الجنوب والمنطقة العربية ضمنها)، علينا أيضا أن نستعمل شرعة الغاب... المطلوب إذن نوع جديد من الاستعمار، نوع مقبول في عالم حقوق الإنسان والقيم العالمية، نستطيع أن نحدد معالمه... إنه استعمار مثل كل أنواع الاستعمار، يهدف إلى فرض القانون والنظام، ولكنه يعتمد اليوم على الأساس الطوعي"، هذا هو استعمار النظام الدولي الجديد الذي حل علينا بعد مرحلة الاستعمار القديم، ومرحلة ما بعد الاستعمار (ما بعد الكولونيالية)... إذن هذا الغرب الذي يبهر الآخرين بمظاهر "التمدن" و"التسامح" و"النقد والنقد الذاتي"، ما هو في الحقيقة إلا ذئب كاسر، ولا علاقة له بالمدنية والتسامح في كل ما يمت بعلاقة مع مصالحه، وأهم تلك المصالح محصور في نهب ثروات الشعوب "غير المتحضرة" ليشبع به حاجات شعوبه "المتحضرة"، فخلق لنفسه الشرائع ووضع الذرائع والمعايير المزدوجة التي تسمح له بتطبيق سياساته الاستعمارية، ومارس كل السياسات الوحشية لإبقاء العرب والمسلمين خارج دائرة الحضارة "الغربية والمتسامحة!!!"...
فيا أيها السادة، أعضاء "مؤتمر الدوحة الثالث لحوار الأديان"، أي حوار يمكن أن يتم في الغابة بين الحمل الوديع والجريح، والذئب الكاسر..
لذا نستميحكم عذراً، لأن حملنا الوديع قد تحوّل إلى وحش كاسر وفك الله قيوده وبدأ النزال، ولم يعد هناك مجال للحديث عن التسامح والنقد، حتى يتحقق له النصر، مهما طال الزمن...


كلمات دالة: