قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (6)- كيف تحمي المقاومة نفسها

مع بداية ظهور علامات انهيار القطب الشيوعي، الذي بذريعته هيمن القطب الأمريكي، على مناطق النفوذ والثروة بالعالم في صراع استمر أكثر من نصف قرن، مع تلك العلامات كان على هذا القطب الأخير، الطامح في قيادة العالم، البحث عن السبل الكفيلة بفرض اسس وسياسات استعمارية جديدة تسمح للاخطبوط الأمريكي بالاستيلاء على كل مواقع القوة والنفوذ في العالم وردع الشعوب التي يمكن أن تبدي مقاومة أو اعتراض مباشر أو غير مباشر على هذه السياسات.
وتماشياً مع استراتيجيات الحرب الباردة، وعلى طريق البحث عن تلك السبل الاستعمارية الجديدة، تفتقت العبقرية الأمريكية على فكرة إحلال خطر الإرهاب محل الخطر الشيوعي القديم الذي تم تصويره، طوال فترة القرن الماضي، كالشيطان بهدف كسب الحرب الباردة ضده... فكان المطلوب صناعة الإرهاب كخطر أو ظاهرة أو ذريعة جديدة لتمكين الاستعمار الأمريكي من شن حرب عالمية، بإسلوب العصر وبشرعية دولية، لفرض السيطرة المباشرة على منابع النفط والثروة قبل أن يقوم أي قطب صناعي آخر في العالم بالسبق نحو تلك المنابع التي تعد نفوذاً اقتصادياً خطيراً لمن يملك مفاتيح السيطرة عليها.


ضمن هذه الآلة الفكرية المبدعة في وضع الخطط الاستعمارية وتحديثها المستمر، جاءت فكرة صناعة مؤسسات الإرهاب العالمي منذ وقت مبكر. وبدءاً من صياغة تعريف الإرهاب الذي ضمناً جعل الإرهابي هو كل من يقاوم الاستعمار والإرادة الاستعمارية، جاءت تلك الصناعة لتصبح الذريعة الشرعية والخيوط العنكبوتية التي من المفترض أن تحقق نجاح الأهداف الأمريكية. ولتُعطى هذه الفكرة الشريرة زخماً ومصداقية عالية في العالم جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتطلق يد الولايات المتحدة في تنفيذ مشروع القرن الأمريكي الجديد المعني ببناء الامبراطورية الأمريكية العالمية انطلاقاً من مواقع الثروة النفطية. فكانت هذه الأحداث نقطة الإنطلاق التي أعطت الشرعية للإدارة الأمريكية لفرض حزمة من التشريعات الدولية والإقليمية والمحلية في مواجهة ما أسمته بالإرهاب، وعن طريقها أُعطِيَت، بل أخذت، الولايات المتحدة كل السلطات والصلاحيات المطلوبة في استخدام كل الوسائل، بدون استثناء، لردع الإرهاب، وصلاحيات كاملة باستخدام القوة للتدخل بشئون الدول والمنظمات والأفراد في كل أرجاء العالم، واستخدام اقسى درجات العنف في مواجهتها لكل من تمنحه الإدارة الأمريكية لقب الإرهاب ضمن معاييرها الخاصة.
ولأن المتهمين في احداث 11 سبتمبر هم مسلمون وعرب، فإن تهمة الإرهاب وتشريعاته كلها تم تفصيلها على قياس المسلمين عموماً والعرب خصوصاً، فأصبح كل عربي يرفض الهيمنة الاستعمارية الأمريكية، ويقاوم الإحتلال الأمريكي والاستعمار الغربي عموماً، إرهابي يحق للشرعية الدولية (الأمريكية) ان تقتلعه من مكانه وتنكّل به بأي شكل يراه القاضي الأمريكي مناسباً.
فبتهمة الإرهاب شنت الولايات المتحدة أبشع أنواع الحروب ضد الشعب الأفغاني الأعزل، خارج إطار الأصول أو الأعراف أو القيم الانسانية المتعارف عليها أو الأتفاقيات الدولية الملزمة في الحروب، وفتحت سجون في أقاصي الأرض لاعتقال المسلمين والتنكيل بهم بعيداً عن رقابة الإعلام والساسة والعالم أجمع.
وبتهمة الإرهاب مارس ويمارس المحتل الأمريكي أبشع وأقذر وأقسى وسائل العنف ضد كل من يقاوم الإحتلال في العراق، على أمل إضعاف هذه المقاومة والقضاء عليها... وبتهمة الإرهاب فتح المحتل الأمريكي في العراق مئات السجون والمعتقلات فوق الأرض وتحتها، وفيها تمارس أبشع جرائم التعذيب ضد الشعب العراقي منذ بداية تلك الحرب البشعة... وبتهمة الإرهاب ارسل المحتل مئات الأسرى العراقيون والعرب إلى عواصم عربية للتحقيق معهم تحت أقسى ظروف التعذيب... وبتهمة الإرهاب يتم تعذيب الأطفال والنساء والاعتداء عليهم واغتصابهم في السجون الأمريكية... وبتهمة الإرهاب تم تدمير العراق بأكمله...
وبتهمة الإرهاب تحاول الإدارة الأمريكية ملاحقة كل عمليات انتقال الأموال في العالم بهدف منع كل أنواع المساعدات التي يمكن أن تصل للمقاومين والمعارضين لسياساتها، فجاءت بتشريعات "تجفيف منابع الإرهاب" لمراقبة حركة الأموال في كل بقاع الأرض، فأصبحت الأموال العربية حبيسة البنوك الأجنبية خوفاً ورعباً من المساءلة والبطش الأمريكي..
وبتهمة الإرهاب تلاحق الإدارة الأمريكية كل المناضلين والشرفاء في العالم، وتفتح لهم السجون والمعتقلات في كل مكان...
وبتهمة الإرهاب يحق للولايات المتحدة ما لا يحق لغيرها في العالم...
فكيف تحمي المقاومة في العراق نفسها من كل هذا البطش والإرهاب العالمي الأمريكي؟؟!!.
إن اهم وسائل المقاومة في العراق لحماية نفسها هو عدم الإعلان عن هذه الوسائل أولاً، وزرع الرعب والخوف بين كل قوات الإحتلال والعملاء الذين جاءوا معهم وتحطيم معنوياتهم أخيراً... فأصبح المحتل محاصراً في ثكناته وبين أسوار المنطقة الخضراء في العراق، وأفراد المقاومة تصول وتجول في كل مدن وأحياء وشوارع العراق بحثاً عنهم... هذه هي الصورة الحقيقية للمأزق الأمريكي المستمر في العراق، والذي يُشكّل اليوم أحد أهم وسائل المقاومة لحماية نفسها.
ولذلك لم تعلن المقاومة حتى الآن عن أية واجهة سياسية أو إعلامية تمثلها تمثيلاً تفويضياً، كما لم تعلن المقاومة في العراق حتى الآن عن قياداتها ورموزها... ولكن هذه المقاومة في تصعيد مستمر، وتزايد في القوة والعدد والعتاد، دون أن يتمكن المحتل من تجفيف منابعها... وأصبح للمقاومة الاف الواجهات الإعلامية من العراقيين والعرب، الذين يعلنون عن قوتها الضاربة وبأسها وعزمها على الاستمرار حتى يعلن المحتل هزيمته وانسحابه الكامل.
وهكذا مقاومة لا يمكن إلا أن يكتب لها النصر بإذن الله...