قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (1)- بدأ الحـــسم

كيف يمكن أن تخطئ الدراسات الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية في قراءتها للشأن العراقي فيما يتعلق بتبعات وعواقب احتلال العراق؟، وكيف يمكن للديمقراطيات العريقة أن تخطئ في فهم وتقدير دور الشعوب في الدفاع عن نفسها وسيادتها وأوطانها، ضد الاستعمار والاحتلال، في عصر ابتعد طويلاً عن كل أنواع الاحتلال والاستعمار المباشر! بدعوى التحرر والتنمية والعدالة والشرعية الدولية؟، وكيف يمكن أن يعتمد تحريك قطاعات الجيوش والعساكر في العالم لاستعمار الشعوب واحتلال الدول خارج مفاهيم العدالة والحضارة والإنسانية والشرائع والمواثيق الدولية، وعلى أسس هشة قائمة على أعمدة الكذب والزيف والتلفيق المتناهي في الابتذال والقصور الفكري والسياسي؟...
كل هذه الأسئلة تطرح نفسها على المأزق الأمريكي القائم في العراق، بعد مرور أكثر من عامين على الحرب والاحتلال الذي كلّف الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن اكثر من 300 مليار دولار، دون أن تتمكن من الاستفادة من النفط العراقي حتى في تغطية تكاليف جيوشها التي بدأت تعاني من تدني شديد في المعنويات، ومن الخسائر البشرية التي تقدّر بما يزيد على 23000 جريح بعاهات مستديمة وما يزيد على ثلث هذا العدد من القتلى، مما حدا بالبنتاجون للبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق "انسحاب مشرف" من العراق كما جاء على لسان الرئيس جورج بوش، في إشارة واضحة إلى اللجوء للتفاوض مع المقاومة لوضع شروط الانسحاب والعلاقات.


منذ 1 مايو/أيار 2003، حين وقف الرئيس بوش على حاملة الطائرات الأمريكية ليعلن أمام جيوشه عن انتهاء الحرب في العراق، وحتى 9 أبريل/نيسان 2005، الذكرى الثانية للاحتلال، واجهت القوات الأمريكية حرب شرسة ضد الشعب العراقي المتمثل في المقاومة التي تمكنت قبل نهاية فترة العامين من تحطيم معنويات قوات الاحتلال بنسبة 73%، نتيجة معاناتها الشديدة في مواجهة الموت اليومي المترصد لها في كل بقاع أرض السواد. فيا ترى ما الذي دفع المارد الأمريكي للتورط في المستنقع العراقي والوصول إلى هذا الوضع الحرج!، هل هو قصور وضعف التقارير والدراسات الاستراتيجية العسكرية والسياسية الأمريكية التي لم تضع تقديراتها السليمة حول احتمال نشوء هذه المقاومة الشديدة ضد قوات الاحتلال في العراق، أم إن هناك أطراف كثيرة تعاونت لتوريط ذلك المارد الأمريكي بهدف تقزيمه والنيل منه... أم هو عدد كبير من التداخلات والتقاطعات المعقدة بين كلا السببين؟!!.
ولكن بكل تأكيد كان هناك خطأ رئيسي وجوهري في حسابات قيام هذه الحرب عند إعلان الغزو والمواجهة الأرضية في القتال بين القوات الأمريكية والشعب العراقي... كانت حسابات خاطئة جداً بدءاً بتقدير كم وحجم الثأر العراقي والعربي المتراكم في انتظار لحظة المواجهة ضد مَن عمل على قتل أكثر من مليون ونصف عراقي في ذلك الحصار الذي يُعرف بأنه أطول وأقسى وأذل حصار فرض على شعب في التاريخ، وانتهاءاً بتقدير طريقة وأسلوب المواجهة المتوحشة التي قتلت فيها القوات الأمريكية أكثر من مائة ألف عراقي (تقرير معهد هوبكنز للدراسات الاستراتيجية) أثناء الغزو الذي استمر 21 يوماً فقط، وما تخلل ذلك من تدمير كامل واستباحة للأرض العراقية وما ومن عليها.
تقول التقارير بأن القوات الأمريكية حفرت في الأيام الأولى من الاحتلال مئات المقابر الجماعية لدفن العراقيين، ففي مقابر بطول عشرات الأمتار في مطار بغداد الدولي رصت ست طوابق من الجثث بعد معركة المطار التي استمرت ثلاثة أيام، ودفنوا العراقيين بقبور حفروها في أرصفة الشوارع والحدائق والدوارات وحدائق المستشفيات، وحولوا بغداد إلى مقبرة جماعية... ليزج بعد ذلك بمن لم يُقتل من العراقيين في عشرات المعتقلات التي لا زالت منذ عامين تمارس فيها القوات الأمريكية أبشع أنواع التعذيب القذر والمتوحش... الخ، الخ.
بعد كل هذا، ومهما قيل ويقال عن أسباب وأهداف الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، وما يقال عن ما تكبدته الميزانية الأمريكية من تكاليف مادية وبشرية باهظة جداً، بل خرافية، في هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين لتأمين وضمان بقاء واستمرار هذا الاحتلال ومصالحه وتحقيق أهدافه غير المعلنة في العراق، إلا إن مؤشرات كثيرة تؤكد بإن المقاومة العراقية بدأت بالوصول إلى أهدافها، إن هناك طاولة للمفاوضات قد نصبت بين الاحتلال الأمريكي والمقاومة العراقية ووضعت الشروط المبدئية عليها... ومؤشرات تؤكد بداية الدخول في مرحلة فرض انسحاب الاحتلال، لا بل يبدوا مؤكداً إن أطراف اللعبة الدولية التي ساهمت في دفع عجلة التوريط الأمريكية في العراق قد أصبحت مكشوفة في شكلها المعلن كحلفاء ألداء، وإن هناك مستويات جديدة من العلاقات قد تبدأ مع نهاية الاحتلال الأمريكي الصهيوني البريطاني للعراق... فما هي تلك المؤشرات؟!.
كان المؤشر المبدئي هو إعلان الرئيس بوش عن نية "الانسحاب المشرف" من العراق، ولتحقيق ذلك الانسحاب لقوات الاحتلال الأمريكي، هناك بالتأكيد شروط مبدئية وضعت أمام المحتلين، وكان يجب أن تعلن الإدارة الأمريكية عن تأييدها وتنفيذها، ويمكننا أن نؤكد إن إعلان جلال الطالباني عن إلغاء قانون الإعدام وعن عدم وجود أية نية لإعدام الرئيس صدام حسين، الذي جاء بعد زيارة رامسفيلد المفاجئة للعراق يعد أحد المؤشرات الرئيسية لشروط التفاوض، في الوقت الذي تصاعدت فيه الخلافات حول تشكيل الحكومة المزعومة مع تصاعد غير مسبوق لأعمال المقاومة التي استهدفت فيما استهدفت أياد علاوي في عمليتين مباشرتين، في الوقت الذي تم تراجع القوات التي حاصرت منطقة المدائن للإعلان عن رفض الاحتلال للدخول في حرب شبيهة بما حدث في الفلوجة.
كل الشواهد والمؤشرات تؤكد إن المقاومة تمكنت من الوصول إلى مرحلة الحسم، وإن الاحتلال الأمريكي بدأ باستشعار الخطر الذي وقع فيه، وإن هناك متطلبات لفتح آفاق جديدة تضمن تحقيق مكتسبات قد تخسرها الإدارة الأمريكية كلية عند الوصول إلى مرحلة الهزيمة المطلقة في فترة لاحقة... فإما "الانسحاب المشرف" وإما الهزيمة المطلقة على مستوى العراق والإقليم والمستوى الدولي.