قريباً منهم، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق (7)- المقاومة تعيد التوازن النفسي للأمة

"أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم
مَّسَّتهُمُ البَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
أَمَنوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللهِ قَرِيبٌ" (البقرة 214)
كان الاحتلال اليهودي على 6.6% من أرض فلسطين، وبعد هزيمتنا في حرب 1948 احتلوا 77% من تلك الأرض العربية...
هُزِمَ العرب جميعاً في حرب 1967 واحتل اليهود 100% من أرض فلسطين إضافة إلى الجولان وغزة وسيناء فأصبحت مساحة إسرائيل بعد الحرب أربعة أضعاف مساحتها قبل الحرب..
وبين المعركتين والهزيمتين كان عدوان 1956 الثلاثي على مصر العروبة الذي كان يمكن أن يتحول إلى هزيمة كبرى لولا وجود القطب الشيوعي الضاغط باتجاه أيقاف ذلك العدوان الإسرائيلي الغربي...
أما حرب 1973 التي لانزال نحتفل بانتصاراتها لأن جيشنا العربي تمكّن من اختراق خط بارليف وكسر نظرية "القوة الإسرائيلية التي لا تقهر"، فكانت هي الهزيمة الكبرى، بعد أن تم رهن مساحات كبرى من سيناء لتصبح الحدود السياسية الآمنة لإسرائيل في المعاهدات التي تلت الحرب... ورغم ذلك أقيمت الإحتفالات الشكلية "بتحرير" طابا التي لازالت ملوثة بالوجود الإسرائيلي المكثف... فتلك الحرب، التي اعتبرت لعبة سياسية، كانت مدخلاً للتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد التي فصلت مصر عن الإجماع العربي، وكانت بداية الإستسلام لسياسة الأمر الواقع الإسرائيلي والدخول في سلسلة اتفاقيات السلام "الاستسلام"...

فكانت نتائج تلك الحرب هي مجموعة من الهزائم العربية وليست هزيمة واحدة...
ومنذ ذلك التاريخ تتالت على منطقتنا الحروب الأهلية والإقليمية والصراعات العربية العربية التي كانت بمجملها أيضاً تعد هزائم متتالية، بدءاً من الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 واحتلال الجنوب اللبناني، وانتهاءً بحروب الخليج المتتالية.
أما في داخل المجتمعات العربية فكانت معارك الشعب العربي تأخذ شكلاً آخر من الهزائم، في مواجهة ممارسات الأنظمة العربية لقمع كل الأصوات الوطنية المعارضة لهم على مدار أكثر من خمسة عقود، والتي إن بدأنا بسردها قد نملأ بها الكتب والمجلدات..
فكان الناتج الطبيعي من هذه الهزائم المتكررة هو شعب عربي فاقد للتوازن النفسي وفاقداً لعزيمة المواجهة والأمل بالانتصار على اي نوع من أنواع العدوان الداخلي أو الخارجي... شعب محبط وفاقد للثقة حتى في قدراته بالدفاع عن نفسه، وفاقد للتفاعل الإيجابي حتى مع قضايا مجتمعه الصغير من أجل خلق التغيير والقدرة الإنتاجية المبدعة...
استطاعت كل هذه الهزائم وما رافقها من إعلام مبرمج أن تزرع ثقافة الهزيمة في نفوس العرب وتفقدهم الأمل في إمكانيات هذه الأمة التاريخية والحضارية.. وبقي هذا الشعب مستغرقاً في سباته طوال تلك العقود الطويلة من الزمن حتى جاء زلزال احتلال العراق، قلب الأمة وروح تاريخها العظيم... فكان زلزالاً هز الجسد العربي، وأيقظه... فارتفعت الأبصار محدّقة صوب عاصمة الخلافة الإسلامية بانتظار القدرة الإلهية لإحياء القلب وعودة الروح وانقاذ الأمة من الموت...
فإذا باليوم الثاني للإحتلال تنطلق الرصاصة الأولى للمقاومة في العراق، لتعلن عن بدء تاريخ جديد للعرب، فوقف العربان على مدى الوطن العربي يتابعون أخبار هذه المقاومة، وقبل مرور عامين على الإحتلال إعلن حنرالاته بإن هذه المقاومة أصبحت عصية على الهزيمة، وإن إطالة أمد الصراع سيكون نزيفاً وإضعافاً للمحتل على جميع الجبهات العراق، كما هو إضعاف لهيبة الدولة العظمى، وانهيار في اقتصاده... لقد قلبت المقاومة في العراق كل معايير المحتل الأمريكي، واثبتت ضعف استراتيجياته التي وضعت على دراسات خاطئة وكاذبة. وهكذا امتدت تباشير انتصارات المقاومة إلى كل أركان المعمورة، لتقول للعالم بإن هذه الأمة لم ولن تموت، وكلما تكالبت عليها الأزمات امتدت جذورها في أعماق الارض وتفرعت أغصانها باتجاه السماء... فكيف يمكن لبعض ممن لا يفهمون التاريخ ولا ثقافات وحضارات الأمم أن يقلعوا تلك الجذور العميقة ويقطعوا تلك الفروع العالية التي يصعب الوصول إليها...
هذا هو الدور الذي تؤديه المقاومة في العراق للأمة بأكملها كل يوم، وهي تقاتل لتحرير الأرض والإرادة... والانتصارات تعيد للعرب توازنهم النفسي في مواجهة التحديات... تعيد لهم فخرهم واعتزازهم بأنفسهم وتاريخهم وأمتهم، وتعيد تاريخ البطولات العربية والاسلامية في وقائع حية نشاهدها ونسمع بها رغم كل التعتيم والتشويه الذي يمارسهما العدو ضدها... وتعيد ترميم وإصلاح النفوس العربية المحبطة بثقافة الخنوع والاستسلام التي نشرتها الأنظمة العربية... وتعيد إحياء الشعب العربي المؤمن برسالته السماوية التي فضلهم الله بها واختارهم لنشرها وحمايتها.
هناك على أرض العراق يقاتل العراقيون والمجاهدون العرب، بلا هوادة، ليجسّدوا مفاهيم الأمة والإسلام وثقافة التضحية في سبيل الأمة والعقيدة والوطن... يقارعون أكبر جيوش العالم بمئات العمليات القتالية اليومية، ويقع الشهداء العراقيون والعرب في أرض المعركة ليحيوا في الأمة أسمى معاني التضحية والفداء، وليبعثوا للعالم وللتاريخ تعبيراً صادقاً عن مدى ضعف جيوش المحتل والمستعمر أمام إرادة الشعوب الحرة التي تأبى الذل والاستسلام... كما تأبى عدالة السماء إلا أن ترعى هذه المقاومة وتنصرها..
"وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشرَى لَكُم وَلِتَطمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ
وَمَا النَّصرُ إِلا مِن عِندِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ" ( آل عمران 126)