هل انتقاد رجال الدين ومحاسبتهم حرام...؟

سبق أن كان لنا رأي في حركة الإسلام السياسي التي نعاصرها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، على إنها بعيدة عن الحركات الإسلامية التي ظهرت في بدايات القرن العشرين على قاعدة الفكر الديني والأهداف الوطنية والقومية المتقدّمة... فحركة الإسلام السياسي المعاصرة تمكنت من الإنتشار بعد التحولات التي حصلت في إيران، وأصبحت قوة ملأت محل القوى الوطنية التي تم قمعها ونسيانها، لتكون القاعدة الأمامية في مواجهة الشيوعية من ناحية، ولملء الفراغ السياسي الذي نشأ مع بدايات عهد الاستقلال وتغيير سياسات المنطقة ضمن التوجه والمصالح الأمريكية، فجاءت بالعنف والتطرف الطائفي والتشديد على إعلان الهوية الدينية والطائفية من خلال مظاهر مختلفة.
لم تتمكن حركة الإسلام السياسي من أن تقوم على مؤسسة إيمانية بقدر ما تحولت إلى حركة أساسها معادلات سياسية، مع الإذعان للضغوط السياسية لإحياء المظاهر الدينية المتطرفة وفرضها على المجتمع الإسلامي، في عملية واسعة من تضييق الحريات وتهميش الدور الإنساني المتسامح للدين، مما حدا بنمو حركة مناهضة للإسلام على المستوى المعنوي والعقائدي وفي الحياة الشخصية للجماهير.


هذا ما تذكرته وأنا أقرأ تصريحات المرشد الروحي للثورة الإيرانية عام 1979، آية الله العظمى حسين على منتظري، لوكالة رويترز، على صفحات جريدة الحياة الصادرة يوم السبت 22 يناير 2005... ومنتظري هو أحد أبرز قيادات الثورة من داخل إيران، جنباً بجنب آيات الله محمود الطالقاني وشريعتمداري، بينما كان يشاركهم من الخارج آية الله الخميني الذي وصفه بإنه "ثمرة عمره" لشدة قربه إلى نفسه، وأوصى به خليفة له... إلا إن آية الله منتظري تمكّن أن يرى أخطاء الثورة الإيرانية مبكراً، فأعلن معارضته لتلك السياسات عام 1988 بعد إعدام السجناء السياسيين، دون أن يتوقف عن انتقاد رجال الدين الحاكمين في إيران، متهماً إياهم بالتشديد على المواطنين وتحريف الدستور الذي ساعد هو شخصياً على وضعه... فكان أن حُكِمَ عليه بعقوبة الإقامة الإجبارية في منزله لمدة خمس سنوات بعد انتقاده لآية الله خامنئي...
يقول منتظري إنه "إتعاظاً بتجربة إيران أعتقد إنه ينبغي لرجال الدين العراقيين أن لا يتدخلوا في شؤون الدولة ببلادهم، فهذا ليس مجال خبرتهم ويجب أن يعهد به لمن هم أخبر به"... كما أضاف منتظري إنه "من الأفضل أن يكتفي رجال الدين بمراجعة مشاريع القوانين بعد إقرارها والتأكد من إنها لا تتعارض مع الإسلام، وإذا حدث ووجدوا تعارضاً فعليهم أن ينبهوا إليه بلطف" ...
مارس آية الله حسين على منتظري دوره كمعارض لنظام آيات الله في إيران، ليكون قدوة لمواطنيه ويفتح الباب أمام المسلمين للإقتداء به وممارسة هذا الدور دون إضفاء القدسية على رجال الدين، سواء من هم في الحكم أم خارجه، على اعتبار إنهم كبشر غير معصومين عن الأخطاء ... وإن ممارسة النقد بحرية ومساءلة المسؤولين هي الحماية اللازمة للدين والدولة، وليس هناك إي إنسان خارج مسؤولية المحاسبة والنقد... ولكن رغم ذلك هناك ثقافة ينشرها كبار رجال الدين بشكل وبآخر بتحريم هذه الممارسات مع رجال الدين بإشاعة القدسية حولهم لأنهم مسؤولين أمام الله ... وهذه هي الثقافات التي تحوّل الجماهير إلى كتل غوغائية يحركها هؤلاء الرجال كما يشاؤون ضد كل من يوجه لهم نقداً أو محاسبة ... وخصوصاً إذا كانت هذه الانتقادات سليمة وتحرمهم من جزء من صلاحياتهم وقوتهم في بث أفكارهم .
إضافة إلى كل ذلك، فإن آية الله منتظري الذي أُغتِيل إبنه أحمد في بداية الثورة، قد أدرك مبكراً مساوئ العمل السياسي على رجال الدين لما شاهده من عنف وتنافس وتنازع بينهم على المناصب والمواقع القيادية في الحكم، كما شاهد تصاعد الخلافات والصراعات الطائفية منذ بدايات تلك المرحلة، مما أوصله إلى القناعة التي عبّر عنها في نصيحته لرجال الدين العراقيين بالابتعاد عن العمل السياسي، لما للسياسة من دور مادي ومصالحي لا يليق بمن يمارس عملاً إيمانياً وروحياً...
إلا إن منتظري في ذلك الموقع الديني والسياسي، وضمن الظروف التي يعيشها في إيران غير قادر على الإعلان بحرية عن آرائه كاملة، فأوجز رأيه في أسطر قليلة ليُلهِم الشيعة في العراق بأخذ العبرة من تجارب جيرانهم... فهو لا يستطيع أن يعلن من أرض الواقع هناك إنه قد توصّل إلى ذات القناعة التي تَوَصّل إليها الدكتور علي شريعتي، منظّر الثورة الإيرانية، حول مساوئ إدارة رجال الدين للدولة وعملهم في السياسة الذي وصفه كأنه "اتحاد بين سيف الملك وسبحة الملّا" في معرض وصفه لنظام الحكم الصفوي في إيران، الذي حرص على الإعلان عنه ومحاربته لخطورته على الشيعة الجعفرية وعلى الإسلام والمسلمين...
فها هو منتظري يقوم بدوره المعارض والمنتقد لكل أخطاء رجال الدين في مواقعهم المختلفة كمسلم حريص على الإسلام والمسلمين دون نوازع مادية أو طائفية، فلماذا يا ترى يًحَرّم هذا الدور على الآخرين... أم إن ذلك التحريم له أغراضه غير المعلنة؟؟؟.....


كلمات دالة: