تقرير مليس... والابتزاز الدولي

لم تكن الأمة العربية والإسلامية بحاجة لدراسة معمقة في تاريخ الحروب الصليبية بقدر ما هي بحاجتها اليوم... فهذه الحروب التي شنها الغرب الأوروبي على هذه الأمة طوال مائتي عام في حملات عسكرية متتالية لم تتوقف ولم تتراجع، وإنما فقط تحولت إلى أنماط مختلفة من الحملات السياسية والاستشراقية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدبلوماسية والاستخباراتية، وتجلت بشكلها الأوضح في الحملات الأوروأمريكية الاستعمارية والانتدابية، وأخيراً الإحتلالية، أولاً في فلسطين، وثانياً في العراق. وطوال القرون التي تلت تلك الحملات العسكرية الصليبية على المنطقة، لم يتخلى الغرب عن هدف السيطرة على الشرق فوضعوا منذ ذلك الوقت خططاً استراتيجية طويلة المدى، نُفذت ولازالت تُنَفّذ على مراحل، وبآليات متعددة ومختلفة، ولم يتوانوا عن استخدام أية وسيلة تحقق أهدافهم مهما كانت وضيعة ومتدنية، فلم يكن مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" إلا عقيدة أخلاقية في ثقافة الغرب الإرهابية والاستبدادية...

تلك الثقافة التي كانت سبباً في انتشار الظلم في كل أنحاء العالم، ومن سراديب ذلك الظلم والظلام الأوروأمريكي خرجت الشعوب تنادي بالنضال في سبيل التحرر من البعبع الاستعماري الغربي الذي عمل ويعمل منذ قرون طويلة على نهب ثرواتنا ليبني بها حضارته التي كلما ازدادت قوة وازدهاراً، ازدادت مجتمعاتنا ضعفاً وتخلفاً.
وبناءاً عليه، لا يمكن قراءة تقرير مليس، الخاص بالتحقيق في عملية اغتيال الرئيس الحريري، إلا ضمن دائرة الآليات الصليبية في غزو هذه الأمة وإضعافها، تنفيذاً لاستراتيجيات خطيرة هدفها التاريخي والنهائي هو إخراج هذه الأمة من التاريخ، للتخلص منها حسب ما جاء به هانتنغتون في كتابه "نهاية التاريخ"... وضمن نفس الدائرة نقرأ ضعف الأنظمة العربية في مواجهة تلك المخططات التي ستنال من الأنظمة ذاتها كما تنال من الشعوب، حيث وصلت هذه الاستراتيجيات إلى مراحل متقدمة لا تنفعها أنظمة سلبية لا تعرف كيف تساير شعوبها وتحقق المصالح الاستعمارية في ذات الوقت.
لقد تميزت الحملة الصليبية الأوروأمريكية على الأمة العربية والإسلامية، في القرن الواحد والعشرين، بما خلقته الإمبريالية الغربية من آليات ابتزازية تناسب هذا العصر المتميّز بتفرد القوة الأمريكية وسطوتها العسكرية على العالم، تلك الآليات التي جاءت مع مشروع الإمبراطورية الأمريكية الغبية التي لا تعرف سبيلاً آخر غير القوة للحوار بين الأمم، فجاءت بالإرهاب والحرب على الإرهاب لتقسّم العالم إلى دول الخير ودول الشر، واستخدمت الكذب والكذب والكذب لتسجل الكذب في القاموس السياسي كآلية من آليات القوة ووسيلة حضارية للوصول إلى الهدف، ونصبت الولايات المتحدة نفسها شرطياً مكوكياً مهمته خلق الجريمة وتوجيه الاتهامات وخلق لجان التفتيش والتحقيق لتثبت التهم الكاذبة على من تستهدفهم من الأفراد والدول للوصول إلى أهدافها الاستعمارية والاحتلالية... فكما خلقت كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية لثلاثة عشر عاماً، وأتت بلجان التفتيش الأمريكية لإذلال وإضعاف العراق والوصول إلى هدف الغزو والاحتلال الذي تحقق لإمبراطورية الشر الأمريكية، ها هي اليوم تعيد نفس السيناريو في تلك الجريمة التي قتل فيها الرئيس رفيق الحريري، لتخلق لها لجنة تحقيق هزلية، وتأتي بتقرير هزيل هدفه النهائي إضعاف وإسقاط الدولة في سورية بعد إسقاط وتدمير الدولة العراقية.
والسيناريو سوف يتكرر مثلما حدث للعراق، مهما إدعى الرئيس السوري بإنه ليس مثل الرئيس العراقي صدام حسين، وإنه أذكى منه في التعامل مع القوى التي تستهدفه هو ونظامه والشعب السوري كله... وسوف يتكرر السيناريو كالتالي: ستفرض العقوبات الدولية على سوريا، وسوف تطالب الأنظمة العربية سوريا بالإلتزام بالقرارات الدولية بذريعة عدم قدرتهم على التصدى لـ"الشرعية الدولية" التي يديرها "الشرطي الأمريكي"، وسوف يطالبون سورية أن تفتح كل ملفاتها وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية والدفاعية للجان التحقيق أو التفتيش، وستستباح سورية أمام قوى الشر الدولية، الولايات المتحدة والكيان الصهيوني...
وهذا السيناريو سيطبق على دول عربية أخرى، فقط مع تغيير الأسباب والمبررات... ولكن مع الأسف الشديد لا حياة لمن تنادي، ولا نعلم إلى متى سيستمر هذا الكابوس العربي قبل أن تصحى القيادات العربية من غفلتها لترى المستقبل الأسود الذي ينتظرنا جميعاً.
لكل ذلك، فإننا لا نملك إلا أن ندعو الشعب العربي كله للتحرك دفاعاً عن سورية أمام هذا الخطر الجديد، مع رجاءنا بأن لا تكرر القيادة السورية الخطأ العراقي، وأن تستوعب الدرس وتعلم إن المظاهرات الحاشدة لن تحل المشلكة، وإنه لو خرج الشعب السوري كله للشارع معترضاً على تقرير مليس فلن يستطيع إيقاف المخطط الذي يستهدفون به سورية، وما سيفيد هذا البلد العربي العزيز علينا جميعاً هو فتح حوار حقيقي وشامل بين الشعب وقيادته أولاً، وتقديم الدعم والمساندة الكاملة للمقاومة في العراق للتحول من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم ثانياً، ليتبعه الشعب العربي كله، متوحداً في حالة النهوض والتصدي للهجمة الصليبية الجديدة...