الليبرالية الأصولية في المجتمع العربي (1)

هل تعد الليبرالية في المجتمعات العربية فكراً وخطاً سياسياً التزم به بعض العرب، أم ثقافة مجتمعية تمارس في الحياة اليومية، أم هي مجرد أطر ومعايير اقتصادية تم استيرادها من الغرب المختلف اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وعلمياً عن مجتمعاتنا؟!... قد نستطيع الإجابة على هذا التساؤل في نهاية هذه الورقة...
لذلك، وقبل أن نبدأ بالحديث عن الليبرالية في المجتمع العربي بنموذجها الحالي لابد لنا، من الرجوع لمفهوم المصطلح وظروف نشأته وتطوره مع تطور المجتمع الغربي (حيث هو منشأه)... خاصة وإن هناك خلطاً على ما يبدو في فهم ماهية الليبرالية وماذا تعني، وكيف تمارس في السياسات الغربية ومجتمعاتها، بل إن هناك قطاعات واسعة في مجتمعاتنا قد أساءت لهذه الكلمة حين درجوا على ترجمتها في الواقع المجتمعي بعيداً عن معناها وتوظيفاتها في مجتمعاتها الأصلية.
فالليبرالية حسب المراجع الغربية، هي كلمة تطورت في الرومانية من إسم الإله "ليبر Libre"، الذي يعني الحرية الناتجة عن ذهاب الوعي بسبب شرب الخمر، وما يتبع ذلك من حرية ممارسة العربدة والفساد... وأدى التطور اللغوي لهذا الإسم إلى إستخدامه كمصطلح للدلالة على "الحرية الشخصية" أي حرية المرء في فعل ما يشاء، واشتقت منها كلمات "الحرية Liberty"، و"حر Liberal"، و"الليبرالية Liberalism"... والليبرالية حسب هذا التطور اللغوي هي مصطلح يعبّر عن "الفلسفة التحررية"...
ظهرت الليبرالية بمفهومها التحرري في فترة النهضة الغربية مع نشوء الطبقة البرجوازية، التي كانت طبقة القطاع الأوسع في المجتمع... وكانت الليبرالية بمفهومها المحصور في "حرية الفرد والمنفعة" حينذاك مصطلحاً معبّراً عن أيديولوجيا، سياسية واقصادية واجتماعية، منسجم مع المجتمع الغربي الذي بدأ منذ وقت مبكّر بتسوية إشكلات ومعوقات الدولة الغربية الثيوقراطية، فحصر الدين ورجالاته بين جدران الفاتيكان وعزل الدين عن الدولة عزلاً تاماً، وحرّر التشريعات والسياسة من كل قيودها، فكانت تلك الجدران فاصلاً رسمياً بين قيم الدين وقيم الدولة العلمانية الغربية.


من أهم مميزات تلك الدول الغربية هي شمولية أنظمتها... فأصبحت العلمانية الليبرالية بأيديولوجيا المنفعة الفردية المطلقة هي سمة مجتمعاتها ومؤسساتها بشكل عام، ومحاربتها لأي فكر مضاد ومختلف عن تلك المبادئ... حتى لو استدعى ذلك لممارسة القمع... رغم كل ما تدّعي من مبادئ التحرر والتعددية التي إن وجدت فهي ضمن تلك المعايير والمبادئ الأيديولوجية الليبرالية وليس مختلفاً عنها...
تقوم الليبرالية على مبادئ أساسية تختصر في كلمات هي (ما هو نافع بالنسبة لي فهو "الخير"، وما هو ضار بالنسبة لي فهو "الشر")، وعلى هذا الأساس رسّخ مفكروهم المجددون مبادئهم التي تنادي بـ "تحقيق أكبر قدر من المنفعة، مقابل أقل قدر من الألم"... وهي ذات المبادئ التي إستندت عليها نهضة الغرب المعاصرة المادية والمفرّغة من معظم القيم الإنسانية التي اكتسبها البشر مع تعاقب الحضارات الإنسانية في التاريخ...
إلا إنه تم تطوّر الفكر الليبرالي من الفردية المتطرفة إلى الفردية المعتدلة، بالتدريج، بعد تعرّض تلك المجتمعات للأزمات الاقتصادية الكارثية التي كان أحد أهم أسبابها غياب التشريعات المقيّدة لتلك المنفعة الفردية المتطرفة لدى الليبراليين...
وهكذا مرت الليبرالية في الغرب بمراحل متعددة لتتجسد بعد ذلك بشكل ملموس في إعلان الثورة الأميركية عام 1776، وإعلان الثورة الفرنسية عام 1789، وإعلان حقوق الإنسان عام 1948، والإعلان العالمي للأمم المتحدة عام 1949، وما جاء بعد ذلك من معاهدات وبعض الدساتير...
ولكن هذه الأيديولوجية التي تبلورت من خلال أفكار بعض من فلاسفة الغرب التجريبيون المؤمنون بمذهب المنفعة الخاصة ضمن أطر أخلاقية تتناسب مع قيم مجتمعاتهم، مرت بتغييرات كبيرة حتى وصلت إلى النمط الأمريكي المطروح في الوقت الحاضر بواسطة الإدارة اليمينية في البيت الأبيض... علماً بأن المقومات الفكرية التي تقوم عليها الليبرالية حالياً، هي نتاج توجهات فكرية متعددة لا تخص الأيديولوجيا الليبرالية وحدها... فعلى سبيل المثال وليس الحصر تعد مبادئ الإصلاح وتكافؤ الفرص والعدالة وفصل السلطات الثلاث والديمقراطية الدستورية والبرلمانية وغيرها، نتاج أيديولوجيات مختلفة وتبنتها مجتمعات متعددة دون أن تكون ليبرالية.
ويمكن القول بأن توجهات النهضة الأوربية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كان يُحَتّم إنتاج تلك الإيديولوجيا الليبرالية ضمن ممارساتها الثقافية والسياسية، مما يشكل صعوبة في تَبَنّي الليبرالية كأيديولوجيا سياسية أو اجتماعية في مجتمعات لم تُعَد مسبقاً لذلك الهدف على المستوى المؤسساتي أو الفكري، أو في مجتمعات تمتد آفاقها وقيمها الثقافية في أعماق الحضارات التاريخية العريقة بأبعادها الإنسانية التي تتعاكس مع تلك القيم الليبرالية المادية البحتة... لذلك تم فرض مبادئ ليبرالية معينة على تلك المجتمعات بشكل إجباري وليس طوعي من خلال منظمات دولية تخدم بشكل أساسي مصالح الدول الأقوى في العالم، فانحصرت تلك المبادئ المفروضة بالقيود الاقتصادية التي جاءت من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية والاتفاقيات الدولية... لتتحكم دول الغرب الليبرالية بخيوطها مع بداية الألفية الثالثة ضمن ما يدعى بمستلزمات العولمة المقيّدة لاقتصاديات كل العالم الثالث لتزداد شعوبه فقراً، وتصب بثرواته في مصالح الدول الليبرالية الكبرى، أمريكا وأوروبا، لتزداد ثراءاً...
هذا الوجه المنفعي المادي واللاإنساني هو أحد وجهي العملة الليبرالية التي يراد لها أن تكون عملة عالمية اليوم...