الليبرالية الأصولية في المجتمع العربي (2) - الليبرالية الغربية منبع الفكر الاستعماري

الوجه الآخر للفكر الليبرالي الغربي فهو ذلك الوجه الاستعماري القبيح الذي إبتلى به العالم الثالث، ليبقى رازحاً في تلك المرتبة دون أن يُسمح له بالتقدم، مهما كان الثمن... وخلقوا لتلك الغاية الآليات والأدوات والأفكار، كلها لا تتطابق مع دعوات الحرية والفكر الحر...
لقد إستبدل مفكروا الغرب المجددون الاستبداد والانحطاط الفكري، الذي حاربوه في عصر النهضة، بشكل آخر من الاستبداد، إذ إن مبادئ المنفعة وحرية التملك التي قامت عليه القواعد الليبرالية وضعت بذور الدولة ذات القيم المادية المطلقة، لتحصد الدولة الرأسمالية الأميبية، التي ما كان لها أن تنمو وتتطور وتتعاظم لو لم يتم تغذيتها بمبدأ الاستعمار في عقيدة الغرب الليبرالية التي شرعت قانون الغاب بسيطرة القوي على الضعيف، أو التهامه اذا استدعت إلى ذلك مصالح القوي، فكان الاستعمار الذي جسده الفكر الليبرالي الغربي أبشع تجسيد من أكثر الجرائم الإنسانية على مدار التاريخ البشري...
ومع التطور والتقدم الصناعي والعلمي أصبح الاستعمار يجري في شرايين الحضارة الليبرالية الغربية وعليه تعيش مجتمعاتها... ويصور أحدهم ذلك المبدأ الاستعماري في العقيدة الليبرالية بإنه "إذا كانت الرأسمالية هي روح الحضارة الغربية، فالاستعمار هو قلبها النابض".
والحديث يطول عن الإحتلال والاستعمار الليبرالي الغربي للعالم الثالث... ونتركه للمناقشة.
الليبرالية والديمقراطية
أما من أهم المغالطات في فهم الليبرالية هو ذلك الربط بينها وبين الديمقراطية وكأنهما كلمتين مترادفتين لمفهوم واحد... وهناك أحزاب عربية جديدة (أو جمعيات سياسية) تُعَرّف نفسها وأعضائها بالليبرالية والديمقراطية معاً، رغم التعارض بينهما، وهذا ما يعترف به مفكر النهضة الغربية الليبرالي جون ستيوارت الذي وجد ذلك التعارض الشديد بين الليبرالية والديمقراطية فقام بمهمة التوفيق بينهما (قبل منتصف القرن التاسع عشر)، ولا أعتقد إنه توَفّق في تلك المهمة، نسبة لما نراه اليوم في كل دول الغرب (الديمقراطية، الليبرالية).


ويؤكد الاستاذ الجامعي الأردني الدكتور هشام غصيب هذا التعارض بملاحظات تفيد بأن دعاة الليبرالية الاقتصادية قبل منتصف القرن التاسع عشر لم يكونوا دعاة للديمقراطية، بل يمكن القول إنهم كانوا يميلون إلى مناهضتها (أي الديمقراطية)... وبعد صراع طويل بينهما تم الجمع بين الليبرالية والديمقراطية في الغرب، وخصوصاً عند بدء حاجة هذه المجتمعات للإستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني... حيث الحرية الليبرالية بالتملك الخاص في السوق، تعد نوع من أنواع الهيمنة الاحتكارية المطلقة للشركات الكبرى ضد قوة الطبقة العاملة... وعندما سادت الديمقراطية البورجوازية القائمة على تنامي قوة الطبقة العاملة في الربع الثالث من القرن العشرين هناك، استطاعت أن تحد كثيرا من الليبرالية الاقتصادية. فالليبرالية، في دعوتها إلى حرية التملك الخاص وفتح الباب على مصراعيه لقوى السوق، هي في جوهرها دعوة إلى القبول بالهيمنة المطلقة للاحتكارات والشركات الكبرى. وأما الديمقراطية فهي -حتى في شكلها البورجوازي السائد في الغرب-حصيلة نضالات جماهيرية، وهي تتيح لشراكات الطبقات العاملة مع البورجوازية أن تحد من تغول النخب الاحتكارية وتوسع المشاركة في صنع القرار.
في حين إن ماركس وانجلز (الماركسيون) ذهبا أبعد من ذلك، إذ إضافة إلى إقرارهما بالفرق بين الديمقراطية والليبرالية، فهما أيضاً أقرا إن الديمقراطية والليبرالية وجهين لعملة واحدة تخدم فقط الطبقة الرأسمالية (الرأسمالية الإحتكارية)، بينما يعتبران إن الديمقراطية يجب أن تكون في خدمة القطاع الأوسع لفئات الشعب مثل الفلاحين والعمال والبرجوازية الصغيرة وضد الشركات الإحتكارية الكبرى.
وفي كل الأحوال فإن كلا الإتجاهين يصلان إلى نتيجة واحدة رغم الخلافات بينهما، إلا إنهما يشتركان في فصلهما بين الليبرالية والديمقراطية.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا التعارض بين الديمقراطية والليبرالية، ولعل أكثرها وضوحاً هو القائم في دول الخليج التي تجمع بين انفتاح اقتصادي وأنظمة سياسية تقليدية، وتلك الليبرالية الاقتصادية والسياسة الشيوعية التي تظهر في أوضح صورها في الصين... وغير ذلك.
هذا الخلط بين مفهومي الليبرالية والديمقراطية هو ما يجعل الكثير من الناس غير مدركين إن ليس هناك ديمقراطية مطلقة في دول الغرب، بل ما هو هناك هو ديمقراطية مقيّدة بالليبرالية، حيث إن الليبرالية تنظر إلى الفرد بإنه أساس المجتمع وله حريته التي لا يجوز للحكومة أو الأفراد الآخرين التغَوّل عليها، فيترك الأفراد بإختيار ما يشاؤون دون تدَخّل من الدولة، وضمن ذلك لا يؤمن الليبراليون بإن الحرية والعدالة والحكم الصالح يتمثل في حكم الأغلبية، وأنه لضمان عدم تحوّل حكم الشعب إلى حكم قهري، تعسفي، وغير حكيم ، يجب أن يكبح جماحه... فليس هناك الديمقراطية الخالصة التي تؤمن بسيادة الشعب إيماناً مطلقاً، وما نشاهده في الغرب هي الديمقراطية الليبرالية التي تحد من هذه السلطة... والليبرالية فيها هي الأساس وتسود على الديمقراطية.