التناقض الثقافي والقيمي والمفاهيمي . .

اختلطت المفاهيم في مجتمعاتنا حتى بات الناس لا يميزون بين المثل والقيم العليا، وبين النفعية والذاتية التي وصلت إلى حدودها التآمرية على مصالح الوطن والشعب . . ولم تصل مجتمعاتنا إلى هذه الفوضى والاضطراب الثقافي بشكل تلقائي وطبيعي بقدر ما هي نتاج عمل منظم ومؤطر لأهداف تم تحقيقها بإيجاد مجتمعات عربية هلامية لا يمكن تحديد شكلها، وهشة لا تتحمل ضغطاً تحت أدنى درجات القوة . . .
وإن كان هذا هو حال المجتمعات العربية عموماً، فإن المجتمع العربي في الخليج له النصيب الأكبر في هذه المواصفات التي انكشف المستور منها مع الانفتاح الثقافي والسياسي الذي صاحب عمليات الإصلاح في دوله، منذ بداية القرن الحالي . . .

فمجتمعات خليجنا العربي، التي عاشت حالة جمود ثقافي وحراك إسلامي ونشاط اقتصادي خلال العقود الثلاثة الماضية، بنمط مختلف عن كل الأنماط السائدة في أي جزء من العالم، باتت متميزة بثقافاتها المتناقضة مفاهيمياً وقيمياً، حتى عن ثقافات العرب الآخرين . .
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، وبدء مرحلة الاستقلال من الاستعمار الأوروبي دخلت مجتمعاتنا في دوامة استعمار جديد لم تألفه سابقاً . . فكان الاستعمار الأمريكي يعمل في مجتمعاتنا تحت شعار الاستقلال والتنمية بعد التخلص من شعار الاستعمار والعبودية . . فاستغل شعار الاستقلال كغطاء كبير وفضفاض لتغليف الوجود الاستعماري في هذه المنطقة بشرعية حماية النفط والتحكم في أسعاره، واستغلت التنمية في فرض الهيمنة بالتلاعب في معادلة الثقافة والإسلام والاقتصاد لعزل أبنائها عن الفكر التحرري والانتماء القومي والمد الشيوعي، هذا المد الذي كان العدو الاشتراكي الشرقي للنظام الرأسمالي الغربي . . وأهم أدوات هذا التلاعب كان سياسة تجهيل المجتمع بكل قطاعاته وإلهائه بمخططات تنموية هزيلة على المستوى القطري المجزأ والمنفصل عن مداه وتكامله القومي . . حتى انتهى القرن العشرين من دون أن تنجح أية دولة عربية في تحقيق التنمية التي تمدها بالقوة والهيبة في المجتمع الدولي، وليبدأ كل قطر عربي، القرن الحادي والعشرين وهو أضعف حالاً مما كان عليه في بداية القرن الذي سبقه . .
أهم مواصفات الضعف الجديد في منطقتنا العربية هو ذلك التناقض الثقافي والزيف المفاهيمي والقيمي الذي يعيشه العرب اليوم، والذي سهل دخول المنطقة في عهد استعماري واحتلالي مكشوف ومعلن، تحت "مجموعة من الأكاذيب السياسية وفق أطروحة فلسفة التبرير الراسخة في التاريخ الأمريكي والمنسوبة إلى دور الأجهزة الاستخباراتية والإعلامية ومراكز الأبحاث وفق ثنائية التسويغ والتسويق" ("الاستقطاب الإقليمي"، فتحي العفيفي، المستقبل العربي ۳۳۳) من دون أن يستنهض ذلك أبنائها . . .
هذا التناقض الثقافي والزيف القيمي الذي استهدف ونجح في إلغاء الهوية الوطنية والانتماء القومي بين جيل عربي كامل، بات سلاحاً ذا حدين، إذ بدأت آثاره الكارثية تدك بمرتكزات الوطن وسيادته وبدا هذا الجيل من أسهل الأهداف اختراقاً واستهدافاً . . لذلك لا يشكل اصطفافه مع أعداء الأمة المتدافعين لنهشها في مواطن ضعفها مناقضاً لثقافته وقيمه المتناقضة أصلاً . .
فيا ترى ألم يحن الوقت لإيقاف هذا النزيف الفكري والبشري والوطني والقومي المستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود ؟ ؟ ! ! . .
للحديث بقية . .