العقد الدولي الأطلسي.. والشرق الأوسط الجديد

هدأت عاصفة الحرب في لبنان الدامي، وسكتت المدافع، وجثمت آلات الحرب الإسرائيلية في أماكنها، إلا إن أسباب هذه الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على لبنان، بإعداد وتخطيط مسبق، لا تزال غامضة.. ولكن يوميات الحرب، وقرار مجلس الأمن رقم 1701، وأسلوب ووسائل تنفيذه بإدارة أطلسية تقودها فرنسا، والصورة العربية غير واضحة المعالم بما يغطيها من غبار حركة الآليات العسكرية المرافقة لعشرات عشرات الألوف من الجيوش الأجنبية التي تتحرك وسط غبار المدن والقرى العربية التي دمرتها، ولازالت تدمر بها منذ بداية القرن الجديد، تعد وسائلنا لمعرفة الغامض من أهداف هذه الحرب.


كشفت حرب لبنان، بشكل جلي، حجم الصراع والتداخل والتبادل في المواقف والأدوار الأوروبية والأمريكية في منطقتنا، كما كشفت إن الصوت الأوروبي، سواء الرافض بقوة أو المتمنع بصمت للمواقف الأمريكية، واللذين لا يصلان إلى حد استعمال الفيتو أوروبياً في كل قضايا العرب، يقابلهما فعل أمريكي لا يقل عن التحدي والاندفاع للهيمنة على منطقتنا حتى وصل إلى احتلال العراق وتدمير لبنان، وتحويلهما إلى قواعد ومراكز لقوات الأطلسي بمسميات مختلفة.. فقوات التحالف أو المتعددة الجنسيات الأمريكية، لا تختلف عن قوات حفظ السلام أو اليونيفيل الأوروبية فيما ستحققه من أهداف الغرب الاستعمارية لصالح ضفتي الأطلسي.
كشفت حرب لبنان إن الدورين الأمريكي والأوروبي ينطلقان من رؤية واحدة وهي النظرة الدونية والعنصرية باتجاه هذه المنطقة وشعوبها، وهي النظرة التي تدعم رؤيتهما في أحقيتهما بثرواتها، والاتفاق على توزيع الأدوار للوصول لتقسيم عادل لهذه الثروات بينهما، هذه الأدوار التي شهدت تضارباً في حرب لبنان، ما بين دور وزيرة الخارجية الأمريكية الفج والخالي من كل حس إنساني وحتى سياسي، بترديدها المستمر بأن الوقت لم يحن لإيقاف إطلاق النار لأن أهداف الحرب لم تتحقق، بينما عشرات الأطفال اللبنانيين كانت تتقطع أوصالهم في كل ساعة تحت القصف الإسرائيلي.. وبين دور السفير البريطاني في البحرين برسالته السمجة التي بعثها إلى إحدى الصحف اليومية البحرينية يأمرهم بالتوقف عن نشر صور الحرب والدمار والقتل البشع والمذابح الإجرامية التي كان للأطفال والمسنين من الرجال والنساء اللبنانيون الحصة الأكبر فيها، تلك الصور التي كشفت حقيقة الوحوش القابعين في دوائر الحكم والقيادة الغربية، على ضفتي الأطلسي، وذراعهم العسكري وآلتهم الشيطانية في إسرائيل.. وبين الموقف الفرنسي المبهم فيما يخص قرارات نشر قوات اليونيفيل التي تتزعمها فرنسا في جنوب لبنان، حيث لا يزال الغموض، إعلامياً، يلف طبيعة عمل هذه القوات وما تحتمي خلفه من قرارات أممية، إذا عرفنا إنها ملتزمة بالشرط الإسرائيلي بمشاركتها فقط جيوش الدول التي لها علاقات مع إسرائيل.
كشفت حرب لبنان، أن الشيطان الأكبر الأمريكي الذي يعمل في العلن بجحافل جيوشه، لا يمكن أن يحقق نجاحاً دون الدور الأوروبي المتمثل في السياسات البريطانية الخفية والناعمة والفاعلة في تأثيرها المباشر في دوائر وقصور القرار العربي... وما عقود وصفقات بيع وشراء الأسلحة والطائرات الأوروبية، المنتهية الفعالية، على دول الخليج بمليارات الدولارات إلا مثال على قوة وسطوة هذه السياسات الأوروبية الناعمة، وخطورتها التي لا تقل عن الفعل الأمريكي المدمر في منطقتنا.
كشفت حرب لبنان الستار عن السياسات الدولية الجديدة، وأهم ما كشفت عنه هو "العقد الدولي" في العلاقات السياسية بين الشيطان الأوروبي الخفي والوحش الأمريكي المعلن لبناء النظام الدولي الجديد، على غرار "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو الذي كان أساس بناء الدولة والحضارة الغربية. ففي "العقد الدولي" يتفق الطرفان على تحقيق مصالحهما دون أي اعتبار لمصالح الدول الكبرى أو حقوق وسيادة الدول الصغرى، ودون أي اهتمام بالإجماع العالمي، مادام الطرفين على ضفتي الأطلسي متوافقين.
وبناءاً على النموذجين العراقي واللبناني، وما تنص عليه بنود العقد الأطلسي هذا، يمكننا شعوباً وأنظمة أن نضع تنبؤاتنا لمستقبل المنطقة، وما سوف تعيشه شعوبها في الفترة القادمة.. إن لم تتفاعل الأنظمة العربية مع شعوبها في التحكم بزمام أمورها برؤية وآفاق أوسع كثيراً من الرؤى القطرية الضيقة التي لن تحقق لنا سوى المزيد من الهزائم والدمار.