أئمة الكادر وكادر الأئمة

منذ سنوات (لا نريد تحديدها) لم نسمع كلمة علنية شجاعة ومنصفة في حق المذهب الجعفري والوطن البحريني من رجل علم في الدين والمذهب كالكلمات التي سطّرها الشيخ محسن العصفور بكل صدق في بيانه الإنساني الحكيم بمعرض رده على بيان المجلس العلمائي حول ملف كادر أئمة المساجد (وهو جدول وضعته الدولة لتنظيم عمل أئمة المساجد ضمن سلم وظيفي، رفضه "المجلس العلمائي" بدعوى عدم شرعية استلام أئمة المساجد لراتب شهري من الدولة)، ذلك البيان الذي يذكر فيه الشيخ أنه محاولة لغلق ملف الكادر لما ترتب عليه "من مساوئ وتجاوزات يندي لها الجبين وعكست نظرة سيئة أمام الرأي العام الإقليمي والعالمي عبر الصحافة عن أتباع المذهب الجعفري في مملكة البحرين والطريقة الغريبة التي يتعاطون فيها قضاياهم مع الدولة والرأي العام..." (من نص البيان، صحيفة الوطن، العدد 159 بتاريخ 18/5/2006).


حوى بيان الشيخ العصفور 28 فقرة، كل واحدة منها تحمل معاني كبرى ما كانت لتصدر إلا من شخص في مقامه، موضحاً في ذات الوقت "إن فقرات البيان الصادر من المجلس العلمائي، التي استندت فيها إلى الرؤية الشرعية المبنية على المرتكزات الإسلامية الأصيلة والنابعة من فكر مدرسة أهل البيت عليهم السلام والمعتمدة على تاريخ المرجعية الطويل على حد تعبيره بحاجة إلى توضيح ومناقشات وسجالات علنية وبلغة سهلة وسلسة تتناسب مع الذهنية العامة لنتعرف على ماهيتها وحقيقتها المغيبة والمجهولة لدى الكثيرين والتي بسببها دخلت الساحة البحرينية في نفق مظلم وصراعات وأزمات على أصعدة مختلفة بسبب استفتاءات متناقضة صادرة من جهات أجنبية طالب الجميع بسلبياتها وألغت الثقل العلمي والفقهي لمدرسة البحرين الفقهية العريقة وحولتها إلى مدرسة خاوية جوفاء تستورد أبسط أحكامها ومسائلها من خارجها، يجب أن تعالج فوراً لتبحر سفينة الوطن إلى بر الأمان وتخرج من شرنقة هذا التشرذم والتيه والضياع" (من نص البيان)
ورغم الأهمية الكبرى التي يحمله هذا البيان إلا إنه، ومع الأسف الشديد، لم يلق الإهتمام الإعلامي اللازم، فلم يدرك الإعلام البحريني، كالعادة، أهمية الاستفادة منه كنص مرجعي هام وخطير، والذي كان يمكن أن ينظّم عدد من الحوارات الثقافية المسهبة حول كل فقرة من فقراته، ضمن خطة استراتيجية تهدف إلى نشر وعي مجتمعي جديد خارج الأطر الطائفية التي تنخر في جذورنا التاريخية والمجتمعية والمؤسسية، وتعصف بمستقبلنا إلى أعماق بحر الظلمات.
وإذا كان الشيخ محسن العصفور قد بعث برأيه المتخصص كرجل دين في هذه القضية، فإنه من المهم أيضاً أن يعي المجتمع الجانب السياسي، المبَطّن، من الاعتراض على كادر الأئمة الذي ينظم شئون أئمة المساجد في البحرين، وجعله قضية خلافية نسبة "للمذهب الجعفري"، امتداداً لذلك السياق التاريخي الذي تم ويتم فيه خلط الأهداف السياسية بالمعتقدات المذهبية، لتحقيق مصالح لا علاقة لها بالدين والمذهب.
وفي ذلك السياق، يمكن الإشارة إلى إن مَن وصفهم الشيخ محسن العصفور في بيانه بـ "أصحاب العمائم الذين يعيشون في جنة من الألقاب ولا حظ لهم من العلم سوى السقطات والأخطاء الفاضحة"، أولئك يقومون بأداء دور رئيسي في مخطط طويل الأمد في منطقتنا عموماً، يعتمد أساساً على قولبة المذهب الجعفري حسب القالب الإيراني الذي يرسم نفسه في إطار المرجع الأول للطائفة وحامي حماة الإسلام، حسب خطابات ومنشورات المرجعيات السياسية والدينية القابعة في قم وطهران. وحسب هذا القالب تنشأ الخلافات التنظيمية والشكلية التي تعلن بإسم أبناء المذهب الشيعي في البحرين، من خلال المجلس العلمائي الذي أعطى لنفسه أحقية تمثيلهم مذهبياً، ومن خلال جمعيات الإسلام السياسي الشيعي التي أعطت لنفسها أحقية تمثيلهم سياسياً...
وفي هذا الإطار يمكننا أن نُرْجِع الخلاف على كادر الأئمة إلى ما لا علاقة له بالمذهب الجعفري، بل إلى علاقته الخفية بالسياسات التي ترسم لهذه المنابر الدينية من قبل أطراف داخلية وخارجية، وخصوصاً إذا علمنا أن هناك "أمانة عامة دائمة لأئمة الجمعة والجماعات" في إيران تم تأسيسها في عام 1983، ولهذه الأمانة الدائمة أمانات فرعية منبثقة منها "وتتصل بالتنظيمات التي يؤلفها رجال الدين داخل وخارج إيران، تنظّم مؤتمرات لأئمة الجمعة وتوالي تنفيذ توصياتها، وتضع الخطوط العامة لخطب الجمعة" ("صنع القرار في إيران والعلاقات العربية الإيرانية"، د. نيفين مسعد) حسب متطلبات المكان والزمان... ومن المعروف إن هذه الأمانة الدائمة قد تولى رئاستها علي خامنئي في فترة رئاسته الجمهورية الإسلامية، "الأمر الذي كفل التنسيق بين الجهتين" الرسمية والدينية.
ويعتمد نظام الجمهورية الإسلامية، السياسي والثوري، "منذ أن أفتى الخميني بإعادة صلاة الجمعة في غيبة المهدي، بعد أن عُطّلت طويلاً في انتظار عودته"، على فرض الهيمنة الخفية على هذه المنابر لما لها من دور هام في قضايا الحشد والتعبئة، "وفي تبرير تصدير الثورة وتسويغه" (المصدر السابق)...
ولأننا نؤمن إن المذاهب الإسلامية الرئيسية لم تكن يوماً موضع خلافات متواصلة ومحتقنة كالتي يعيشها الشارع البحريني يومياً منذ أكثر من عقدين ونصف من الزمن، فإننا نرى ضرورة البحث المتواصل عن منابع وأصول تلك الخلافات، والأطراف المستفيدة منها... وفي نهاية كل خلاف نكتشف إن الخاسر الوحيد هو المذهب الجعفري، رغم إنه ليس أحد أطراف الصراع، لما نسب له من معتقدات كانت من متطلبات صراعات سياسية لا علاقة لها بالمعتقدات الدينية والروحية.


كلمات دالة: