يخدعنا من يقول إن هذه هي الديمقراطية

جاء في صحيفة "الوطن" البحرينية (العدد 78/الأحد 26 فبراير 2006)، وضمن حلقات "قصة الإسلام الحركي في البحرين"، اعترافات للسيد مرتضى بدر، رئيس المجلس البلدي لبلدية المنامة، بدوره كأحد المؤسسين والقياديين الأوائل لـ"الجبهة الإسلامية.....!?"، وحيث إننا نرى في تلك الاعترافات بعض الثغرات التي يراد بها تغطية حقائق معينة، فإننا نرجو أن يسمح لنا الأخوة في "الوطن" مناقشة بعضها... وللأهمية نبدأ بمقدمة توضيحية.


المقدمة: لم تنجح بلاد فارس منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي (1501م/907هـ)، باحتلال أية بقعة من الأراضي العربية بقوة السلاح، رغم المعارك والصراعات الطويلة التي خلقتها، ولكنها نجحت في تحقيق أهدافها تلك بالتحالف مع القوى الغربية التي تلتقي معها في هدف الهيمنة على هذه المنطقة (والإثباتات التاريخية سنسردها في مقال آخر). ويُعَد التحالف الإيراني-البريطاني أطول تلك التحالفات عمراً، وأكثرها دعماً للسياسات الإيرانية التوسعية الدءوبة لقرون طويلة، في تحقيق مصالحها. وفي ظل معطيات الوجود الاستعماري البريطاني عملت، ولا زالت تعمل، إيران على تحقيق مصالحها القومية بالتوسع في الأرض العربية من خلال سياسات رئيسية، وهي أولاً: سياسة التدخل في الشؤون الداخلية، ثانياً: سياسة التضليل الدبلوماسي، ثالثاً: سياسة تغيير التركيب القومي والقبلي، ورابعاً: سياسة القوة المسلحة (راجع "صنع القرار في إيران، والعلاقات العربية-الإيرانية"، د. نيفين مسعد – مركز دراسات الوحدة العربية، 2002).
وبذلك عملت إيران على تشجيع هجرة العمالة الإيرانية إلى الخليج، وهو توجه حافظت على استمراريته رغم الخلافات السياسية الإيرانية-الخليجية بعد الثورة، ولَعَبت دوراً تعويضياً لضآلة حجم التبادل التجاري بين الطرفين" (المصدر السابق). والهجرة المعنية هنا هي تلك التي بدأت في النصف الأول من القرن العشرين ضمن برنامج سري نظمته الأجهزة المخابراتيه في نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وهي تختلف عما سبقتها من هجرات تمت في فترات سابقة ولظروف إنسانية مختلفة، حيث انتقل فيها العديد من القبائل الفارسية الأصل إلى الساحل الغربي من الخليج هرباً من مختلف الظروف السياسية والاجتماعية والعقائدية التي مرت عليهم مع تعاقب عهود الحكم في بلاد فارس. ويعد أحد أهم تلك الهجرات هي التي تمت في القرن السادس عشر الميلادي، مع فرض الشاه إسماعيل الصفوي مذهب التشيع بالإجبار والعنف على كل الشعب الفارسي الذي كان بأغلبية سنية. أما آخر تلك الهجرات فهي التي تمت في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي حتى بدايات القرن العشرين، والتي كان أحد أهم أسبابها فرض إلغاء حجاب المرأة في إيران، بقوة القانون، بهدف عصرنة المجتمع الإيراني مع بداية حكم الأسرة البهلوية للبلاد. وقد ذابت هذه القبائل والعائلات والأفراد في النسيج الخليجي العربي باللغة والعقيدة والانتماء والولاء والحقوق والواجبات، وهم اليوم يشكّلون جزءاً أصيلاً من الشعب العربي في المنطقة. وهنا يجب التذكير بأنه خلال فترات مختلفة من تلك العصور الطويلة تمت هجرات معاكسة لقبائل عربية كانت قد انتقلت في أوقات سابقة إلى بلاد فارس، ورجعت أجيالها اللاحقة إلى أصولها في شبه الجزيرة العربية والخليج.
وما يعنينا هنا هو تلك الهجرة المنظمة والمبرمجة التي بدأت مع حكم الشاه محمد رضا بهلوي، والتي حققت أهدافها في تغيير التركيبة السكانية بالدول الخليجية عموماً والبحرين خصوصاً، حيث حصل مئات الألوف من أولئك المهاجرين على جنسيات هذه الدول مع الحرص على ولائهم للوطن الأم من ناحية، والوصول إلى مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، في هذه البلدان، بوتيرة مقلقة ومتزايدة الخطورة من ناحية أخرى... دون أن ننسى إن كل تلك السياسات تم تنفيذها في ظل الوجود الاستعماري البريطاني، قبل وبعد الاستقلال.
ومن نماذج السياسات الأخرى المتبعة في تحقيق إيران لمصالحها القومية هو ذلك "الخاص بالمطالبات الإقليمية ببعض الدول الخليجية أو بأجزاء منها، تأسيساً على ما يوصف بالحقوق التاريخية"، وأبرز تلك المطالبات هو ما "تميزت بثبات إيران على تأكيد أحقيتها في البحرين بدعوى اجتياحها في فترات تاريخية سابقة" (المصدر السابق). وكانت إيران قد عرضت هذا الموضوع في عصبة الأمم في عام 1927، وتم السكوت على تلك المطالبة في عام 1970، بعد أن اتفقت بريطانيا مع شاه إيران على استفتاء شعب البحرين في تقرير المصير، مما أسفر عن تأييد البحرينيين للاستقلال وتأكيد عروبة البحرين. وقد جاء هذا الاتفاق البريطاني الإيراني ضمن تسويات إقليمية تضمنت توقيع إيران اتفاقيتين للجرف القاري مع كل من قطر والكويت عامي 1969 و1970 على التوالي (المصدر السابق)، وجاء بعدها مباشرة احتلال إيران لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، التابعة لدولة الإمارات العربية في مضيق هرمز، في عام 1971، دون أن تحَرّك بريطانيا ساكناً، مما يثير الاعتقاد بوجود اتفاق بريطاني-إيراني حول ذلك.
ورجوعاً إلى حوار السيد مرتضى، نوضح التالي: لقد انفجرت المطالبات الإيرانية بالبحرين مرة أخرى مع قيام الجمهورية الإسلامية، وخصوصاً مع إعلان آية الله صادق روحاني في سبتمبر 1979 رفضه لاعتراف الشاه بعروبة البحرين، واعتزامه قيادة حركة ثورية من أجل (استعادة الأرض المسلوبة التي تخلى عنها الشاه)، وأيّد هذه المطالبة كل من آية الله محمد الشيرازي، المرجع الأوسع تقليداً بين الشيعة (صاحب فتوى وجوب التطبير، أي شج الرأس، في يوم العاشر من محرم ذكرى استشهاد الحسين بن علي عليهما السلام)، ومحمد منتظري (ابن آية الله منتظري) الذي عاش في البحرين لفترة قبل الثورة، وهادي المُدَرّسي (اسمه الحقيقي هادي رهبر بور)، الذي أسس الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين مع السيد مرتضى بدر ورفاقه، وحينها لم يجدي نفي الحكومة الإيرانية لإعلان صادق روحاني الخطير في تبديد ظلال الشك في سياسات الجمهورية الإسلامية، وخصوصاً إن النفي كان هزيلاً نسبة لقوة اندفاع المشروع الإيراني لتصدير الثورة.
ونكمل الأجزاء المفقودة من حوار السيد مرتضى، بأنه مع إعلان الروحاني بدأت البعثات الإيرانية، المعلنة والسرية، تدخل البحرين، بقيادة الأخوين هادي وتقي المُدَرّسي (اسمه الحقيقي تقي رهبر بور، مؤسس منظمة العمل الإسلامي، واتباعها معروفين بالشيرازيين، وتعد جمعية العمل الإسلامي في البحرين إحدى امتداداتها السياسية بجانب الإمدادات المذهبية المتمثلة ببعض الحسينيات). وكشاهد على العصر، وكمراقب ومحلل سياسي، يمكن أن أصف تلك المرحلة بأنها كانت واضحة المعالم، إذ لم تلتزم تلك الجماعات بالسرية التامة في ممارسة نشاطاتها وتحركاتها المشبوهة، منذ العام 1979، وكأنهم كانوا في سباق مع الزمن. لقد تمكنوا، خلال فترة قصيرة، من تأسيس قاعدة شعبية مذهبية كبيرة موالية لإيران في صفوف الشباب البحريني من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار، وخصوصاً في القرى، كما تمكنوا من بناء البنية المؤسساتية الرئيسية لعملهم في المراحل التالية وأهمها مرحلة التسعينيات. وبعد مرور أكثر من عامين على بدء تلك النشاطات، تم اتهام الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، واُعتُقل 73 شيعياً بحرينياً أدينوا بالتواطؤ، بينما تمكّن هادي المُدرسي من الهروب إلى إيران، وآخرون توزعوا للعمل من خلال مواقع أخرى خارج البحرين ومنهم السيد مرتضى.
وبتتبع النشاط، شبه المعلن، الذي مارسته الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، ومقارنتها بسياسة القمع التي تبنتها المخابرات البريطانية، التي كانت تدير الجهاز الأمني البحريني طوال عقود الاستعمار وما بعد الاستعمار، في قمع الحركات الوطنية الذي أدى إلى إفراغ الساحة الخليجية منها، يمكننا التأكيد على إن تلك التنظيمات الإيرانية (المذهبية السياسية) التي ملأت أجزاء من الساحة الخليجية حينها لملأ الفراغ الوطني، ما كان لها أن تحقق نجاحاً في مجتمعاتنا لولا حصولها على دعم خفي وضوء مخابراتي أخضر.
أما ما ذكر السيد بدر عن انتماء الشيعة العرب للجبهة فقد كان مقتصراً على القواعد، لأن القيادة والتأسيس كان للشيعة العجم (الذين هربوا قبل بدء حركة الاعتقالات)، في المرحلة الأولى من مشروع تصدير الثورة، إذ تغيّرت الواجهات القيادية، فيما بعد، مع تغيير الاستراتيجية التنظيمية للمشروع (وهذا موضوع بحاجة إلى مساحة كتابية أكبر). ومن الجدير بالذكر إن النصيب الأكبر من الاعتقالات كان من نصيب الشيعة العرب (البحارنه) المغرر بهم، بعد هروب قياداتهم (ومن المؤكد إن تلك الوقائع حققت أهدافها بخلق فجوة عميقة بين "البحارنة" والقيادة في البحرين، وهو هدف رئيسي لواضعي سياسات "فرّق تسد" في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس)... وبدخولنا في مشروع الإصلاح عادت تلك القيادات من الشيعة العجم لتأخذ أهم الأدوار في المناصب المنتخبة، والمجالس البلدية خير شاهد على ذلك.
والملفت للانتباه في كل الحوار، الذي نشر على صفحة كاملة في الصحيفة، إنه لم يتم ذكر أسم الجبهة بالكامل، واقتصر الطرفان على تسميتها الجبهة الإسلامية، وتم تناسي النصف الثاني والأهم وهو "لتحرير البحرين" والذي يشكل أهم أهداف الجبهة ويقصد به تحرير البحرين من قياداتها العربية وانضمامها إلى الدولة الأم، إيران.
أما بخصوص قول السيد بدر "نحن الإسلاميون نرتفع على الاختلافات العرقية... إلخ"، والذي يشير فيه إلى نفسه وأتباعه من الإسلاميين التابعين لفكر الثورة الخمينية الذي التزمت به "الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين"، فإنه قول فيه الكثير من المبالغة، ونستشهد في رأينا هذا بالمادة 115 من دستور إيران للعام 1979، والمعدّل في عام 1989، والتي تحدد خمسة شروط في الرئيس الإيراني وهي "أن يكون إيراني الأصل، ويحمل الجنسية الإيرانية، قديراً في مجال الإدارة والتدبير، حسن السيرة، تتوافر فيه الأمانة والتقوى، مؤمناً معتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي لبلاده"، وبذلك لا يجوز أن يرشّح للانتخابات الرئاسية في إيران كل إيراني، لغته الأم ليست اللغة الفارسية، بمعنى أي إيراني من أصول كردية، أو تركمانية، أو عربية، أو بلوشية، أو أذربيجانية... الخ، وكل إيراني سني، أو مسيحي، أو يهودي، أو صابئي أو بهائي... الخ، فتصبح الرئاسة الإيرانية مقتصرة على القومية الفارسية والمذهب الشيعي... وعلى سبيل المثال أجازوا في العام 1997 أربعة مرشحين فقط للتقدم للعملية الانتخابية، من أصل 238 شخصاً تقدموا للترشيح... وهنا يتضح، إن ادعاءات السيد بدر بالترفع على الاختلافات العرقية والمذهبية والدينية، تأتي في سياق الاستهلاك العاطفي للكسب السياسي.
وأخيراً، وبعد تلك الاعترافات المراوِغَة على صفحات "الوطن" البحرينية، نتساءل، هل السيد رئيس المجلس البلدي لبلدية عاصمة البحرين لا زال مؤمناً بأهداف الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين؟... وهل لايزال يؤمن بأن البحرين، أرضاً وشعباً، لا تعد جزءاً أصيلاً من الأمة العربية؟... أم إنه الحالة التي تشككنا، حكومةً وشعباً، في إدراكنا لمفهوم الديمقراطية الذي لا يمكن أن يوصّل من لا يملكون إيماناً بالوطن إلى مناصب القيادة والمسؤولية، حتى في أعرق الديمقراطيات في العالم؟