نجيب محفوظ، إبداع العظماء وتواضع العلماء...

رحل الروائي العربي والفنان العالمي نجيب محفوظ وبرحيله فقدت الأمة العربية أعظم أدباؤها المعاصرين، وأكبرهم شأناً في كتابة الرواية العربية.. محفوظ من الروائيين النوادر الذين أبدعوا في تناول الرواية من كل الجوانب الفنية، فكتب الرواية الواقعية والسياسية والتراثية والتاريخية وحتى الرواية المسرحية والسينمائية والساخرة، فتميّز بالشمولية في التأليف الروائي لم يتميّز بها أي روائي عربي غيره حتى هذا اليوم...
من السهل الحديث عن نجيب محفوظ، الروائي العربي الأكثر إنتاجاً، والأكثر انتشاراً، مبيعاً وترجمة، دون أن ينقطع عن الكتابة حتى مماته.. من السهل الحديث عن هذا المبدع العربي والعالمي العظيم بما قدّمه من إبداعات أدبية طوال عمره المديد الذي ناهز المائة.. ولكن كيف يمكن الحديث عن نجيب محفوظ الإنسان المبدع الذي عاش ومات بعيداً عن الأضواء وإبهاراتها وسطوة سلطتها على النفس؟!..


رغم شهرته بعظمة إنتاجه المبدع والوفير، إلا إن نجيب محفوظ لم يكن أحد نجوم الفضائيات أو أي وسيلة إعلامية أخرى، ولكنه كان قريباً جداً من عالمه المحلي، حيث منبع إبداعاته ومنشأ أبطاله ومسرح رواياته، فلم ينقطع عن الشارع المصري الذي اعتمدت عليه بيئته الروائية، ولا عن الفرد المصري الذي بقي الشخصية الرئيسية في تلك الروايات حتى النهاية، فأجاد محفوظ اختزال كل المجتمعات العربية في ذلك المجتمع المصري الثري بتنوعه.. فكان إبداع نجيب محفوظ يقوم على عمق معرفته وقوة صلته واستمرار تواصله مع كل مصر، رغم اهتمامه بمنطقة وسط القاهرة، وبالأخص حي "الجمالية"، مسقط رأسه، التي لم تغب صورتها عن خياله الروائي في كل أعماله، فأبدع في سرد تفاصيل وقائع رواياته المحكمة الترابط، حتى وصفها النقاد بالروايات الصورية، التي يسهل تحويلها إلى أفلام سينمائية، مما جعل من هذه الروايات ثروة السينما المصرية.
لم يجذب الظهور الإعلامي نجيب محفوظ، فعاش حياته كلها في مصر وأحيائها وأزقتها كأي مصري مغرم بوطنه ومُلهم بغرامه... عاش محفوظ كل نجاحاته التي وصلت إلى فوزه بجائزة النوبل العالمية في الأدب، دون أن يرى في عظمته الإبداعية ما يدعو للتعالي والابتعاد عن مجتمعه، أو النظر إليه بتعال وفوقية، أو تجنب السير في الشوارع بجانب الناس البسطاء، كما يفعل غالبية النخبة المثقفة ومن يُدعون بالمفكرين والشعراء العرب المعزولين في أبراجهم، حتى تميّز نجيب محفوظ بتواضع العلماء الواثقين والمتعمقين في علومهم وإبداعاتهم..
لم نشاهد محفوظ طوال سنوات عمره، وهو النجم اللامع لسنوات طويلة في سماء كل العرب دون استثناء، لم نشاهده يوماً مهرولاً للحصول على المناصب والمكرمات، أو متصدراً المجالس لاستقطاب أبصار الناس وأضواء الكاميرات، أو متحدثاً بلغة يتصنّع بها استعراض ملكات ثقافية مزيّفة غير مفهومة بقصد الإبهار وليس الاستيعاب.. بينما هناك نخب (مثقفة) في مجتمعاتنا العربية، من المحيط إلى الخليج، باتت تشكّل ظاهرة طبقية طافحة وطافية على سطح مجتمعاتها، تتعيّش على ما تحققه من شهرة وما ترسله من أحاديث الإبهار المزيفة للناس البسطاء، حتى دون أن ينجزوا جزءاً بسيطاً من أعمال مبدعنا العظيم التي ستبقى خالدة، ومُخلّدة إسمه لتاريخ طويل...
لربما نحن جميعاً بحاجة لتسليط الضوء على هذا الجانب في شخصية نجيب محفوظ والاهتمام بدراسته، عسى أن نكتشف في سر نجاحه وإبداعه أسباب فشل الآخرين في تحقيق إنجازات حقيقية لهذا الوطن العربي الذي بإسمه حصل محفوظ على جائزة نوبل العالمية...
رحم الله نجيب محفوظ...


كلمات دالة: