غوانتانامو وأبوغريب نموذج أخلاقي وسياسي

بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فرضت الإدارة الأمريكية على العالم تشريعات الوحوش الكاسرة التي اعتقدت أنها ستخدم مشروعها الإمبراطوري... تشريعات الحرب على الإرهاب لخدمة استراتيجيات "مشروع القرن الأمريكي الجديد"... تشريعات تكشف حقيقة الأمريكي القبيح الذي خرج من قمقم الحرب الباردة ليمتص دماء الشعوب... فجاءت هذه التشريعات ليسجل وصمة عار جديدة في تاريخ الإدارات الأمريكية بما لا يمكن أن تنساه البشرية على مدى "القرن الأمريكي الجديد" وقرون طويلة بعده. فإذا كانت الأجيال لا زالت تتداول حتى اليوم قصص الحرب القذرة التي شنتها الولايات المتحدة على الشعب الفيتنامي في النصف الثاني من القرن العشرين، أو قنابلها الذرية التي قضت على الحرث والنسل في المدينتين اليابانيتين في النصف الأول من القرن العشرين، أو الأدوار الوحشية التي مارستها جيوشها وأجهزتها الاستخباراتيه في كل قارات العالم على مدار تاريخها، ناهيك عن أدوار الأمريكيين الأوائل في اجتثاث شعوب وحضارات الهنود الحمر، ودورهم في اصطياد الأفارقة وبيعهم في سوق النخاسة الأمريكي لاستعبادهم وتسخيرهم كحيوانات ناطقة في خدمة الرجل الأبيض، فيا ترى ماذا سيكتب التاريخ عن السياسات الوحشية التي تمارسها الإدارة الأمريكية وهي في عهدة جورج بوش الصغير؟!... هذه الإدارة الأمريكية التي كتب عنها الصحفي الأمريكي سيمون هيرش في كتابه "القيادة الأمريكية العمياء، الطريق من 11 سبتمبر إلى سجن أبوغريب" (الدار العربية للعلوم، 2005)!!، ما سيحفر في ذاكرة التاريخ كأسوأ مثال لتسلّط القوة المفرطة على شعوب الأرض قاطبة.


بعد نشر فضائح السلوك الأمريكي المتدني في سجن أبوغريب بالعراق، وبالتحديد في يوم 5 نوفمبر 2004، جلس السيد جيمس الزغبي، السناتور الديمقراطي السابق، ورئيس معهد العلاقات العربية الأمريكية، أمام جمع من البحرينيين في منزل نائب السفير الأمريكي بالبحرين، يحاول، بحديثه الناعم السلس، أن يقنعنا بأن ذلك السلوك الشاذ الذي انكشف للعالم من داخل سجن أبوغريب، الذي تديره وزارتي الدفاع الأمريكية والبريطانية في العراق، لا يمثل الأخلاقيات الأمريكية، بل هو سلوك بعض الأفراد الذين "لربما هم بحاجة للعلاج النفسي"... وبكل إصرار حاول الزغبي، ذلك المساء، ممارسة نوع من عمليات الاستغباء التي يمكن أن تنجح معنا كشعوب خاضعة لعمليات الغزو الإعلامي الأمريكي، لنقتنع بأن أخلاقيات الإدارة الأمريكية هي أعلى وأرقى من تلك السلوكيات المتدنية والوضيعة التي لا تمارسها حتى الحيوانات الكاسرة في غاباتها حفاظاً على توازن الطبيعة عبر تاريخ الخليقة.
بعد كلمته الطويلة والمملة، سألت السيد الزغبي: ياترى بأي وجه حق تطالبوننا أن نصدّق هذه المقولة؟، وإن ما جرى (ويجري حتى يومنا هذا)، في سجن أبوغريب في العراق، لا يمثل السلوك الأمريكي؟!، وبالتالي علينا أن لا نلوم الولايات المتحدة الأمريكية، شعباً وحكومة، على ذلك السلوك الذي وصفته بالشاذ، بينما شملتم كل العرب والمسلمين بسلوك 19 "عربياً"، تزعمون أنهم قاموا بعمليات تفجير البرجين الأمريكيين، حسب المصادر الأمريكية الفاقدة لأدنى مستوى من المصداقية؟!... فأصبح كل العرب المسلمون أهدافاً إرهابية لأجهزتكم القمعية... فأين العدالة في ذلك؟؟.
نعم، بناءاً على عمليات 11 سبتمبر، التي حتى اليوم يلفها الغموض والشكوك، تم استهداف أمتنا أرضاً وشعباً وعقيدة وهوية؟، وبسببها أشعلت الإدارة الأمريكية الأرض من تحت أقدامنا، أشعلت حرباً شعواء ضدنا كأمة، واعتبرت كل من لا يقف معها في موقفها "الشاذ" هذا فهو ضدها وتجب معاقبته، وبتلك المزاعم جاء الاحتلال إلى منطقتنا، وجعلونا فئران تجارب لأسلحتهم التدميرية الشاملة، واستباحت الإدارة الأمريكية مجتمعاتنا وحكوماتنا، وتعليمنا ومواردنا، وسلطت أجهزة التنصت والمراقبة على بيوتنا واتصالاتنا وحساباتنا المصرفية وكل خصوصياتنا؟! وبعد كل ذلك تتوقعون منا أن نصدّق ادعاءاتكم بخصوص سجن أبوغريب؟.
ولمعرفة حقيقة الأخلاقيات الأمريكية نبدأ من مركز الاعتقال التابع للقاعدة البحرية الأمريكية، المارينز، في خليج غوانتانامو، كوبا، حسب ما جاء في كتاب الصحفي "سيمون هيرش" حيث "يقدّر عدد المعتقلين هناك بحوالي 600 شخص، موضوعين في أقفاص فولاذية بالكاد تقيهم من حرارة الشمس العالية". ولكي تمارس الإدارة الأمريكية غلها العقائدي الوحشي ضد هؤلاء البشر الذين اعتقلتهم أثناء حربها الهمجية على أفغانستان، ألغت عنهم صفة "أسرى حرب"، واعتبرتهم "مقاتلين أعداء"، وترتب على ذلك، وبناءاً على تشريعات "الحرب ضد الإرهاب"، ما يلي:
1- إقامتهم في المعتقل غير محددة؛
2- إقامتهم تتعلق بالمعلومات الاستخباراتية التي سيحصل عليها منهم كل من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ومكتب المباحث الفيدرالية (إف بي آي)، واستخبارات الجيش؛
3- أجمع محامو البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة العدل بأن هؤلاء المعتقلين لا تشملهم اتفاقيات جنيف والقانون الفيدرالي الأمريكي؛
4- اعتبار الحرب على الإرهاب مختلفة عن الحرب النظامية، و"إنها حرب تكون فيها الاستخبارات كل شيء"، كان يجب التحقيق معهم ضمن أقسى الظروف؛
وحسب تقرير محلل تابع لوكالة الاستخبارات المركزية زار المعتقل لاكتشاف ما الذي كان يجري هناك، فإنه استخلص بأن بلاده ترتكب جرائم حرب في معتقل غوانتاناموا، "ووفقاً للعينات التي قابلها فإن أكثر من نصف عدد المعتقلين هم في المكان الخطأ. قابل أشخاصاً يستلقون على برازهم، بينهم معتقلان تجاوزا الثمانين، وكان واضحاً انهما يعانيان من اضطرابات عقلية، واكتشف إن ما يجري هو إساءة صارخة". ويقول المحلل "إن أحد أوائل المعتقلين الذين التقى بهم كان ولداً سُئِل فيما إذا شارك في (الجهاد)، أي إذا شارك في حرب مقدسة ضد الأمريكيين، أجاب الولد، لم أشارك في الجهاد أبداً، كنت سأفعل ذلك لو استطعت، ولكن لم تتسن لي الفرصة...". فكانت رسالة المحلل كما يلي: "إننا نزيد الأمور سوءاً بالنسبة للولايات المتحدة تحت عنوان الإرهاب"، ويستنتج أحد المسؤولين السابقين في البيت الأبيض أنه "إن كنا قد أمسكنا ببعض الأشخاص الذين لم يكونوا إرهابيين في ذلك الوقت، فقد باتوا كذلك الآن"...
وهذه هي أكبر الحقائق التي يمكن أن تستخلصها الإدارة الأمريكية، التي توقعت بأنها ستتحكم في العالم من خلال مشروع "الحرب على الإرهاب"، فبات الإرهاب يدق بابها، وتزداد كراهية شعوب العالم لها، وتخلق كل يوم مئات "الإرهابيين" في أفغانستان والعراق، ممن يبحثون عن أنجح الوسائل للانتقام.
أما الحقيقة الوحيدة التي نستخلصها نحن من الجرائم الأمريكية اليومية في حق شعوب العالم، من غوانتانامو إلى أفغانستان وإلى سجن أبوغريب والفلوجة والمحمودية في العراق، حيث أغتصب المجرمون الطفلة عبير وقتلوها مع جميع أفراد عائلتها، فهي أن هذا السلوك الإجرامي لهو من صميم الأخلاقيات والسياسات الأمريكية المستمرة منذ أن وطأت أقدام أجدادهم الأوائل أرض الهنود الحمر العظماء ليبيدوهم ويسرقوا أرضهم، وحتى هذا اليوم... فلن يكون العقاب والانتقام دون مستوى تلك الأفعال...


كلمات دالة: