الحرب على العروبة بالإسلام

لا يحاول الكثيرون تفسير الظواهر السياسية التي تمر بها المنطقة، لكثرتها أولاً، ولشدتها ثانياً، حتى بتنا نعيش كم من المتغيرات السلبية والكارثية على مجتمعاتنا مما لا شك يدفعنا للتساؤل حول كيف حصل هذا؟ ولم يكن هذا هو الحال قبل كذا عدد من السنوات، ولماذا هذا الآن؟..
وأحد أهم الظواهر السياسية السلبية التي نعيشها كل يوم، والتي بدت واضحة في مرحلتي الانتخابات التي عاشتها البحرين، في أكتوبر 2002 وديسمبر 2006، هو حالة اللامواطنة واللاوطنية الشائعة في المجتمع، والتي بدت واضحة جداً في تمترس كل طائفة لانتخاب طائفتها، وهي حالة شديدة الخطورة لمدى ما تعكسه من فقدان الرابطة بين الفرد والوطن، وعدم الوعي الكامل بمفاهيم الديمقراطية التي يطالب بها الجميع، وعدم الوعي بمدى خطورتها التي تعكس أساساً حالة لاوطنية، وضياع الهوية، والتي كلها تعد ثغرات جاهزة لأي اختراق ثقافي كالذي حدث خلال العقدين الماضيين ونتج عنه ثقافة التسفيه لثوابتنا ومثلنا العليا.. فيا ترى هل هذه الثقافة اللاوطنية واللامواطنية حالة طبيعية، جاءت بدون أسباب وستزول بدون عناء؟.. أم إنها ليست بحالة طبيعية، إنما أخذت طريقها إلى ثقافة جيلنا الجديد بشكل منهجي ومدروس، ولن تزول إلا بجهود واعية ومنهجية مضادة؟.


مع بدء الحرب في أفغانستان ضد الاحتلال السوفييتي (1980)، الذي تزامن تماماً مع وصول الثورة الخمينية إلى السلطة في إيران (1979)، واجهت منطقتنا وبلداننا، وهي الأقرب لهذين الحدثين الدوليين الهامين، واجهت مختلف أنواع السياسات والأفكار التي لم يملك هذا البلد، شعباً وحكومة، الاستعدادات الوعي المطلوبين للتصدي لها..
مع بداية الثمانينيات حوّلت وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) الحرب الأفغانية ضد السوفييت، وهي التي كانت تمثل حرباً بين المعسكر الرأسمالي ضد المعسكر الشيوعي، حولتها إلى حرب بين الإسلام والشيوعية.. وضمن هذا المخطط بدأ بث الفكر الجهادي الإسلامي في المنطقة العربية لجذب الشباب العربي والمسلم للقتال في صفوف المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال الشيوعية في أفغانستان.. ولتعزيز فكرة الجهاد، الذي أخذ خط التطرف والتعصب، تم بث أفكار جديدة في المنطقة محورها وهدفها إلغاء الهوية القومية العربية والتمسك بالهوية الإسلامية الفضفاضة.. فخلقت هذه الحرب وما رافقتها من أفكار وعصبيات حالة من الفصل التام بين الإسلام والعروبة. بما معناه إن اتخاذ الإسلام عقيدة وهوية، جعل الولاء للهوية العربية مرفوضاً بذرائع عديدة، أهمها إن الولاء القومي ينافي الإسلام لأن القوميات نشأت في الغرب، وإن الفكر القومي علماني ومرفوض في الإسلام.. وهكذا، كلما اتسعت قاعدة الجهاد والمجاهدين العرب في صفوف الشباب العربي السني، اتسعت الهوة بين جيل عربي كامل وبين هويته العربية، واستمر تكريس هذه الثقافة الخطيرة.
تزامنت هذه الحرب "الجهادية" مع نجاح الثورة الخمينية في إيران ووصول رجال الدين للسلطة في العام 1979، وإعلان جمهورية إيران الإسلامية وهويتها المذهبية الشيعية في أول دستور لها بعد الثورة (1980). ولأن أهم أهداف الثورة بعد نجاحها هو تصديرها بما تحمل من أفكار إلى الخارج، فكانت منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية أولى محطاتها التي وضعت بها أسس الولاء الطائفي الذي استمرت دائرته في الاتساع ككرة الثلج، لتجعل الولاء الطائفي أكثر قوة والتصاقاً من الولاء الوطني بين الشباب العربي الشيعي.
وبين ثقافة الولاء للإسلام كهوية ونبذ العروبة، وبين ثقافة الولاء للطائفة كهوية والتخاصم مع الوطن، التي بمجملها كانت ولا تزال موجهة للشباب في أعمار مبكرة، عاشت البحرين العقود الثلاثة الأخيرة في اضطرابات مستمرة، خفية ومعلنة، تم مواجهتها أمنياً أحياناً والتعتيم أحياناً أخرى، دون التمعن في أسبابها التي تتطلب التصدي الثقافي المباشر لها لتثبيت الهوية العربية والوطنية كولاءات لا يمكن التنازل عنها، وبالتالي نشر ثقافة المواطنة بما تضم من حقوق وواجبات.
يمكن اعتبار ما ورد في الفقرات السابقة عبارة عن قراءة سياسية وتاريخية موجزة حول أسباب حالة العصبية واللامواطنة الشائعة بين الشباب في البحرين، وهي حالة لا تختلف كثيراً عن واقع الحال في بعض الدول العربية والخليجية التي مرت بذات الظروف التاريخية خلال المرحلة نفسها.. وإذا أضفنا إلى الأسباب التاريخية المذكورة بعض من الأسباب السياسية المتفشية في هذه الدول مثل سوء توزيع الموارد، وعدم تكافؤ الفرص أمام الشباب وعدم إشراكهم في صياغة القرار وخلو الإعلام والمناهج الدراسية من مواد التربية الوطنية المتعلقة بنشر ثقافة المواطنة، وغيرها من الأسباب، يمكننا بذلك أن نضع يدنا على جوهر المشكلة التي باتت تهدد سيادة بلداننا من خلال جيل كامل رافض لهويته "تقرباً إلى الله"، ورافض لوطنه موالاة لطائفته..
وانطلاقاً من هذا الواقع يمكن وصف حالة اللامواطنة واللاوطنية لدى الشباب في البحرين في الكثير من المظاهر السياسية والاجتماعية أهمها حالة السلبية الشائعة في مواقف هؤلاء الشباب في التعامل مع القضايا الوطنية والتهديدات الخارجية، وفي عدم اهتمامهم بالمستقبل السياسي لمجتمعاتهم المتمثل في الانتخابات بأوضح صورها.. وهي حالة يتم استثمارها كل يوم في تحقيق الخطط التفتيتية التي تعيشها المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة بأبشع صورها.
لذلك نؤكد إن هذه الثقافة اللاوطنية واللامواطنية ليست بحالة طبيعية بل هي حالة شاذة تم غرسها في مجتمعاتنا وفي ثقافة جلنا الجديد بشكل منهجي ومدروس، فلم تأتينا هذه الثقافة بدون أسباب ولن تزول بدون عناء.. بل هي بحاجة لجهود واعية ومنهجية جديدة.