حال العراق.. التقارير تكشف الأضاليل

يا ترى كيف يمكن كشف جبل من الأضاليل والأكاذيب؟!، ولا سيما عندما يتمكن أصحابها من الوصول إلى أهدافهم بامتلاك العقول والقلوب، وبوسائل تجاوزت حدود الإدراك والمنطق البشري، وحدود الأخلاق والضمير الإنساني... نعم، كيف يمكن شق ذلك الجبل من الأضاليل للوصول إلى قلب الحقيقة؟!، وقد استُغِلَ به الدين أسوأ استغلال لتغطية الحقائق وتشويهها وإنكارها وتبديلها بالأكاذيب التي بدورها تدحرجت ككرة ثلج تداخل فيها الديني بالدنيوي، والمادي بالروحي، والواقعي بالغيبي، والبشري بالرباني..
هذه هي الحالة العراقية، التي لا شبيه لها في التاريخ الإنساني.. الحالة الفريدة التي تكالب عليها أعدائها، وبنوا فوقها جبل من الأضاليل والأكاذيب ليخفوا جرائمهم التي يندي لها جبين البشرية.. وكلما ارتفع الجبل زادت الجرائم بشاعة خلفها حيث يعيش العراقيون حياة لم يعشها الإنسان في تاريخه.
يحكي تاريخ العراق عن الهجوم المغولي ووحشية جيوش هولاكو كأسوأ وأبشع احتلال مر على أرض السواد، حتى الأمس القريب، ولكن العراقيون يقولون اليوم، إذا كان هولاكو حوّل لون مياه دجلة والفرات إلى لون الحبر الأسود المسال من كتب دار الحكمة ومخازن الكتب ودور العلوم البغداية التي أغرق هذا الجيش البربري الملايين منها في النهرين، إلا إن الإحتلال الأمريكي والإيراني الذي يعيشه العراقيون منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، أحال مياه الرافدين للون الدم الأحمر بعد أن تحول العراق إلى منطقة منكوبة يُقتل فيها ما يعادل 500 عراقي كل يوم..


وفي هذا تشير الدراسة الميدانية الجديدة لمعدل الوفيات في العراق، والصادرة من جامعة هوبكنز، والتي تناقلتها وكالات الأنباء يوم الأربعاء 11 أكتوبر 2006، نقلاً عن مجلة لانسيت الطبية، تشير إلى إن عدد القتلى في العراق يزيد على 655 ألف قتيل عراقي، منذ غزو الولايات المتحدة للعراق في 20 مارس 2003، حتى تاريخ إعداد الدراسة في مايو 2006.. وحسب التقرير "إن عدد القتلى بسبب الصراعات يتحدى التقديرات الأمريكية والبريطانية، وإن هذا العدد أكبر بكثير من تقديرات أُناس كثيرون يُفكرون في هذا الأمر"، وتقول لانسيت أن تقديرات هذه الدراسة الجديدة تم فحصها من قِبَل أربعة خبراء مستقلين كلاً على حدة.. أما الدكتور كلبرت بورنهام، الاستاذ بجامعة هوبكنز ومسئول الدراسة فيقول "إنه يبين أن العنف انتشر في كافة أنحاء العراق." ويقول أيضاً "رغم أن معدل الموت هذا قد يكون اعتيادياً في أوقات الحرب، فإن ترابط وتوافقية فترة مستمرة طويلة وعشرات الملايين الذين تأثروا جراء الحرب جعلت منها أكثر صراع دموي في القرن الحادي والعشرين ويجب أن يكون هذا الأمر محل قلق قاتل لكل شخص".. وقد جاءت هذه الدراسة "بعد أسبوعين من تقرير سابق أعدّه 16 من عناصر المخابرات الأمريكية موضحاً أن حرب العراق زاد من حدة "الإرهاب" في العالم وأن تهديدات المتطرفين اتسعت وانتشرت عددياً وجغرافياً" (Aljazeera.com 12 أكتوبر 2006).
هذا هو عراق اليوم، حيث الصراع الهمجي والدموي مستمر، ويهرول كل طرف من المحتلين لقطف ثمار تضحياته الدموية قبل أن يقطفها الآخر.. ولكنها في مواجهة العراقيين يتحوّل ذلك الصراع إلى تحالف لتدمير العراق وإبادة شعبه العربي..
وها هم توحدوا لتقسيم العراق، فبعد أن ثبّت بول برايمر قانون التقسيم، جاء جيمس بيكر لتنفيذه.. وبعد أن عمل برايمر بالتعاون مع إيران على تثبيت أقدام الإحتلال في العراق بالإستفتاء والانتخابات ومجلس الحكم المؤقت والحكومة الانتقالية والانتخابات البرلمانية، جاء جيمس بيكر ليكافئ إيران بفصل الجنوب والوسط وتسليمها بيد الميليشيات والأحزاب الموالية لإيران، بقرار صادر من "البرلمان" بالأقلية المطلقة وبالإرهاب الفكري (هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، 11 أكتوبر 2006).. ولا يزال نهر الدم جارياً على أرض السواد.
أما عن الحياة داخل العراق، وهو الجانب الذي لا تتطرق له وسائل إعلام التضليل العالمي، فلا يمكن أن يعرفها إلا أبناء العراق الذين يعشونها لحظة بلحظة لا يعرف الفرد منهم إن كان سيعيش اللحظة التي ستليها.. وفي وصف هذه الحالة، نقتبس جزء من الترجمة التي نشرتها مجلة الشروق الاسبوعية (العدد 754/ 24 سبتمبر 2006) لنص حوار أجرتها مجلة "ماريان" الفرنسية مع الفنان العراقي محمد زناد الـ "عائد للتو"، حيث يصف حياة العائلة البغدادية في ظل الإحتلال، بقوله "لقد تغيّرت الوجوه، فكل الناس كبروا عشر سنوات خلال بضعة أشهر، الأطفال لا يخرجون أبداً، وقريباً سيعودون إلى المدارس. إنها العودة المستحيلة فكيف نحميهم؟، خلال الأسابيع الثلاثة التي قضيتها في بغداد لم يخرج أي طفل من عائلتي من المنزل. وفي داخل المنزل هناك مشكلة أخرى.. من سيقوم بالتبضع؟، الأقوى من بين أفراد العائلة.. ذاك الذي بإمكانه فرض نفسه.. ذاك الذي شبابه يعكس ملامح اللاوعي بوجه الخطر. ليس النساء ولا الرجال الأكبر من 50 عاماً وليس المراهقون. ومن يتولى المهمة عليه أن يصلي ويُقبّل عائلته قبل الخروج إلى السوق. فقد أصبحت الأسواق الأماكن التي تنفجر فيها القنابل عادة: سوق الشورجة، الكرادة، بغداد الجديدة.. ثم عليه أن يستقل سيارته، وهذا يعني توفر الوقود.. فمن أجل الحصول على الوقود، إذا لم نرد شرائه من السوق السوداء، علينا أن نمضي 8 إلى 12 ساعة في طابور يمتد إلى 2 أو 3 كيلومترات، وإذا لم يصل الدور إلينا حتى الساعة السادسة مساءاً، يحين عندها وقت عدم التجول وهو موعد خروج المافيات وبدء تحركها، وهنا يتم تأشير مكان السيارة في سجل رسمي ليعود سائقها إلى الطابور في اليوم التالي.. ولكن هناك أيضاً رجال العصابات المسلحة الذين لا يقفون في الدور، فهم يظهرون بأسلحتهم ويحصلون على ما يريدون. وهناك مشكلة تتعلق بالتيار الكهربائي، فمعظم أهل بغداد لا يملكون إلا مولّد كهرباء صغيراً يمدهم بقليل من الضوء وتشغيل التلفاز ومروحة واحدة، ولكن ماذا عن الثلاجة؟، وهذه المولدات تعمل بالوقود، وهنا نعود مرة أخرى إلى نفس المشكلة.." ويسترسل "حينما يحل الليل، ينهض الموت فنحن نعيش في عتمة ونسمع انفجارات القنابل وإطلاقات العيارات النارية، وحينها يتحدث الناس عن الضحايا وهم يتساءلون فيما أذا سيحين الدرو عليهم.. وأيضاً عن العوائل التي تبحث عن مفقوديها في المستشفيات.. فهناك عشرات الجثث التي تتراص كالحجارة الواحدة فوق الأخرى داخل المشارح فكيف ننجح في التعرف على هوية شخص ما في هذا الهرم ووسط الرائحة النتنة التي لا تطاق؟، وتحمل الجثث علامات على كل اساليب التعذيب الممكنة، النار، الكهرباء، الحامض، التهشيم... ومع ذلك هناك الكثير الكثير من المفقودين. يرمى القتلة الضحايا في النهر وعليه فإن العوائل تنتظر أن تطفو الجثث في المياه بجنوب بغداد، هناك حيث يرمي نهر دجلة ما بحوزته، هذا المكان يدعى الصويرة.. ينتظر الناس على الضفة أياماً كاملة مع النعوش بانتظار أن تظهر جثة الميت من المياه"..
والآن ألا يدور في ذهنك عزيزي القارئ أن تسأل، هل أنظمتنا العربية التي عملت حثيثاً على وصول الغزاة لاحتلال العراق.. هل هذه الأنظمة سعيدة اليوم بما تسمعه وتعرفه عن هذه المأساة العربية التي يتعاملون معها وكأنها مأساة في جزر الواق واق؟.. وهل هم سعداء لتقسيم العراق الذي جعل التهديد أقرب من حدودهم، ومخادعهم؟.. فإن كانوا سعداء حقيقة، فلنقدّم لهم التهاني على ما أنجزوه.. وإن كان العكس نسألهم ماذا عساكم فاعلون؟ بعد وقوع آخر القلاع الحامية لشرف وحدود الأمة، لتبقى الأمة بلا ظهير ولا عضيد.. وإن كانوا يبحثون عن حل يعين الأمة في نكبتها فنقول لهم الحل هناك في العراق المقاوم، حيث لا تزال المقاومة العراقية تحمي حدودنا بدماء أبناء العراق.. فهي قوتنا المتصاعدة وخط الدفاع الأول عن العراق والأمة.. إنها المقاومة العراقية.. إحموها وساندوها وإدعموها..