المثقف الداعية، وميليشيات الفكر (2)

في كتابها "المبادئ العشرة الأساسية للدعاية الحربية" تسلط البروفسورة آنا ماريلي، أستاذة النقد التاريخي في جامعة بروكسيل، الضوء على حملة الدعاية المنظمة التي وضعتها ونفذتها الماكينة الإعلامية الحربية الأمريكية، بدقة متناهية، لإقناع الرأي العام الدولي وكسب تعاطفه لصالح شن الحرب على العراق. وحسب الكاتبة فقد كان يقف خلف هذه الماكينة جهاز بارع ودقيق يمتلك طريقة خاصة في العمل تكاد تكون صالحة لكل الأوقات ولجميع الحروب تقريباً. وعن أهمية هذه المبادئ العشرة تقول إن قادة الدول يلجأون إليها لكسب تأييد شعوبهم وتعاطفهم في أوقات الحروب... وما يهمنا هنا المبادئ الخمسة الأولى من تلك الدعاية الحربية (كما جاءت في الكتاب):
المبدأ الأول: نحن لا نسعى إلى الحرب...
جميع الأطراف تصر حتى اللحظة الأخيرة بأنها لا تسعى إلى الحرب، فالإعلام الأمريكي يشدد على إنهم ليسوا دعاة حرب، وإن ما يقومون به يعد في إطار الدفاع عن النفس.
المبدأ الثاني: الطرف المعادي هو السبب في اندلاع الحرب...
يصرون، رغم إنهم لا يسعون إلى الحرب، ولكن إذا اندلعت فأن الطرف الثاني هو وحده من سيتحمل مسؤولية اندلاعها. من المهم أن تبرر الحرب على أنها رد على هجوم من الطرف المعادي، وتكون حربا مثالية عندما تكون ردا على هجوم إرهابي مثلاً...


المبدأ الثالث: شيطنة العدو...
والمثال الأفضل لمبدأ شيطنة العدو هو ما قام به الإعلام الغربي لصورة الرئيس العراقي، صدام حسين، الذي وُضِعَ في إطار الرجل المتوحش، والغريب جداً كما تقول الكاتبة، هو كيف وَفّقَت وسائل الأعلام الأمريكية بين رسم صورتين لهذا الرجل، الأولى كملحد والثانية كمسلم إرهابي، والأغرب أن الناس يستمرئون مثل هذه الجرعات الدعائية المعدة بمهارة وإتقان.
المبدأ الرابع: نحن ندافع عن قضية نبيلة، ولا تحركنا مصالح بذاتها...
في كل حرب يمارس المعتدي التعتيم على الأسباب الرئيسية التي تقف وراءها، فالواضح جدا أن النفط هو السبب الرئيسي وراء الحرب على العراق، لكن الأمريكان يتجنبون أي إشارة إلى هذا الموضوع. لقد أصاب رؤوسنا الدوار من كثرة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والاضطهاد في ذلك البلد المحاصر، بينما جوهر القضية والمحرك الأساسي لكل تلك الحرب هو المصالح الاقتصادية، فحجة نشر الديمقراطية لا تناسب الأمريكان بأي شكل من الأشكال، إذ بجانب مئات القصص الأخرى، فهم من جاء بالدكتاتور بينوشيت إلى السلطة في تشيلي في عام 1973 بانقلاب عسكري، قُتِلَ فيه الآلاف من التشيليين، للإطاحة بالرئيس سلفادور الليندي وحكومته المنتخبة والمتفق عليها من جميع فئات الشعب التشيلي!؟.
ولأن من المستحسن دائما أن تصور الحرب على إنها عملية تحرير لشعب مضطهد، عمل الأمريكان جهدهم على ترسيخ الاعتقاد بأن العراقيين سيستقبلونهم بالورود، وعملت شركات الإعلان ليل نهار للتحضير لحفلات التحرير!، ففي الكويت أشرفت على هذه العملية شركة Hill and Knowton، وفي يوغسلافيا Rudder Finn. وهكذا حاولوا إقناعنا أن نصدّق صورة كاذبة رتبوا لها بأنفسهم لجموع عراقية تهرع للشوارع وهي تلوح بالأعلام الأمريكية مبتهجة بدخول القوات الأمريكية إلى بغداد!.
المبدأ الخامس: العدو يرتكب الفظائع المنظمة، أما فظائعنا فلها ما يبررها...
وهو جانب جوهري لحشو المخيلة: فما يقوم به الطرف الآخر يجب تضخيمه وتهويله. أما الدمار الذي يقوم به المعتدي فيندرج في خانة أحداث عفوية وغير متعمدة. وهكذا يتم التركيز على أكاذيب تم ابتداعها لشيطنة الطرف الآخر، في الوقت الذي يتم العمل على محو أي معلومات غير إنسانية في تاريخ المعتدي.
حرب التضليل الإعلامي لدعم العمل العسكري:
بموجب شريعة الغاب الإعلامية هذه تم التعامل مع كل ما يتعلق بالفظائع التي ارتكبت وترتكب في العراق، منذ ما قبل الحرب الأولى ضد العراق، 1991، وحتى يومنا هذا، وبموجبها وضعت البنتاجون "خطط للتضليل الإعلامي والدعاية على نطاق واسع في العالم، لمواجهة موجة العداء للولايات المتحدة، خصوصا في المنطقة العربية وجنوب آسيا" (النيويورك تايمز). وتدعو البنتاجون عمليات التضليل هذه بـ "الدعم العسكري للعلاقات الدبلوماسية" (المصدر السابق). ويبرر رايان هنري، مسؤول السياسات بمكتب دوغلاس فيث، وكيل وزارة الدفاع حينها، هذه السياسات بقوله "مع تقدم التكنولوجيا وطبيعة الحرب الكونية على الإرهاب، فإن المعلومة أصبحت إلى حد كبير تعد جزءاً من نصر استراتيجي، والى حد ما نصرا تكتيكياً، مقارنة بما كانت عليه في الماضي". وبموجب هذه الرؤى يتم التعامل مع المعلومة كعنصر أساسي في السياسات العسكرية التي تدير الحروب الأمريكية حول العالم.
أما الهدف الرئيسي لهذه السياسات التضليلية فيشرحه لورانس دي ريتا (كبير الناطقين باسم البنتاغون) كالتالي "إن المعركة القائمة لتغيير الوعي يستخدم فيها الخصم الإعلام بشكل واضح للتأثير في وعي الجماهير، ودورنا يجب ألا يقوم على تغيير الوعي، ولكن مواجهة ما يقوم به الخصم لتغيير الوعي العام". أي إنهم بهدف مواجهة سياسات الخصم الإعلامية، تجرى عمليات غسيل الدماغ الجماعية، لتغيير الرأي العام كله، وليس الجماهير المحدودة في مساحة جغرافية معينة. ولهذا الهدف الاستثنائي تعمل هذه الدوائر وأجهزتها على وضع خطط الدعاية، وزرع القصص الإخبارية في الصحافة وكل وسائل الإعلام، واختلاق وثائق مزورة، إضافة إلى إنشاء مواقع باللغة العربية على شبكة الإنترنت... وغيرها، من أجل تقويض تأثير الإسلام الذي "يقدم مواعظ معادية للقيم الأمريكية".
وهذا ما يدخل في صميم مشروع "الحرب على الإرهاب"، الذي رفعت الإدارة الأمريكية رايته في مقدمة مسيرة بناء إمبراطوريتها الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. حيث الإرهاب الذي تم إلصاقه بالشخصية العربية الإسلامية، يقصد به كل ما يتعلق بمقاومة ورفض المحتل والمستعمر الأمريكي والمشاريع الاستعمارية، فخلق الإعلام الشخصية العربية الإسلامية الإرهابية الجديدة لتحل محل الشخصية العربية الكافرة أو "العلمانية" التي خلقها الإعلام ذاته لمحاربة الوطنيين المناضلين ضد الإمبريالية في فترة الحرب الباردة، حيث كان لهذا العمل الدعائي أثره في تغيير الرأي العام العربي ضد المعسكر الاشتراكي. فأصبح الإرهاب مصطلحاً متداولاً على مستوى العالم أجمع، وشكّل الإعلام في خيال الرأي العام صورة العربي الإرهابي الدموي والعدائي المسؤول عن كل حوادث العنف التي يذهب ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء.
إن المعالجة الإعلامية لفكرة "الحرب على الإرهاب" تدار بإسلوب لا يمكن التشكيك به دون استخدام التفكير المؤامراتي، في الوقت الذي تم العمل على تسفيه هذا النوع من التفكير وإرجاعه إلى مراحل سياسية قديمة ويائسة لم تحقق سوى الفشل. ويجب أن نشهد إن هذه الدائرة الإعلامية المحكمة الإغلاق، قد نجحت في تغيير الرأي العام، أي نجحت البنتاجون في عمليات غسيل الدماغ الجماعي، حتى تمكّنت قواتها من احتلال أفغانستان والعراق دون أن تخلق المظاهرات الملايينية العالمية ضد الحرب، أية عوائق حقيقية لإيقافها.
تمكّنت استراتيجيات التضليل الإعلامي خلق رأي عام عالمي بدون سلطة أو أية قدرة على تفعيل خياراته، أمام سلطة تهمة الإرهاب الذي اتفق العالم على محاربته بشكل آلي. وفي الجانب الآخر، هذا الخواء الذي لازم الرأي العام العالمي فتح الأبواب أمام الولايات المتحدة الأمريكية لممارسة أبشع العمليات الإرهابية الدموية والفكرية والأخلاقية دون أي رادع أو خوف من أن ينسب فعلها للإرهاب، لأنها هي صانعته والمحارب الأول ضده، إعلامياً طبعاً.
العرب في مطحنة المثقف (الداعية)
وهكذا تجري أحداث العالم في دائرة تديرها المصالح الغربية التي تطحن رحاها العرب لكي لا تقوم لهم قائمة. والأسوأ إن طبقة المثقفين (الدعاة) العرب هي من تدير رحى هذه المطحنة، وهي من تدير عجلة النصر الإعلامي الغربي ضد هذه الأمة. إنهم أولئك الكتبة القابعون خلف مكاتبهم، ولا اتصال مباشر لهم بما يدور خارج حدود هذه المكاتب... وفي أحسن الأحوال يكون اتصالهم الوحيد بالعالم الخارجي عن طريق جهاز الكمبيوتر ومواقع الانترنت المُحتكرة والمُدارة بواسطة ماكينة الإعلام الغربية ذاتها، التي تدير سياسة التعتيم على كل الأخبار الإيجابية التي يمكن أن تغيّر من صورة الشخصية العربية الإسلامية الإرهابية، وأهمها أخبار المقاومة، التي يتم تشويه كل ما يتسرب عنها بكل الوسائل التي هي ليست بخافية على أي مثقف حقيقي مُطّلِع وباحث عن الحقيقة ومصادرها.
هؤلاء (الدعاة) اليوم هم من يحاكم ويقيّم المقاومة في فلسطين والعراق، وأولئك المجاهدون والمضحون بأرواحهم في ساحات الحرب الممتدة من أفغانستان شرقاً إلى المملكة المغربية غرباً ضد الهمجية الأمريكية. ومن على كرسيه الهزاز، في مكتبه المكيّف، يكتب ويفتي المثقف (الداعية) في تصنيف المقاومين ما بين الوطنية والإرهابية والتكفيرية، ولا يكتفي بالعموميات، بل إنه يدخل في تفاصيل العمل المقاوم، ويسمي الأشياء بأسمائها، ليحدد، على سبيل المثال، إن المدعو الزرقاوي (التكفيري) المنسوب إلى تنظيم القاعدة (الإرهابية) والذي قتل كذا ألف من العراقيين، إرهابي، لأن ماكينة الإعلام الأمريكية تؤكد ذلك، وتعمل على تكميم الأفواه والأقلام والأفلام الإعلامية التي تشير من ميدان القتال إلى عكس ذلك.
ورغم إن إعلام المقاومة تمكّنَ، بقوة إيمان كوادره التي تعمل في مواجهة أسلحة الدمار الشامل الأمريكية التي تحصد الصحفيين في مواقع العمليات، رغم إن هذا الإعلام تمكّن من فتح عدد من الثغور في الحصار الإعلامي المفروض حول أخبارها، إلا إن المثقف (الداعية) ذو العقلية النمطية والمتقولبة في إطار الإعلام الأحادي الجانب الذي يصله إلى مكتبه دون جهد، يأبى البحث عن مصادر المعلومات التي تتطلب التحرك على أرض الواقع أو عبر وسائل وقنوات تتطلب الحضور والاتصال الجماهيري على مستوى الشأن العام الوطني والقومي، وليس عبر المشاهد الافتراضية التي تبثها علينا ماكينة التضليل الغربية بالصوت والصورة والكلمة...
ورغم إن الشارع الأوروبي والأمريكي يضج برفض الحرب وهمجية المحتلين... ورغم إن ماكينة الإعلام الحربي الأحادي الجانب، لم تتمكّن من إخفاء همجية المتمدن الأمريكي (غير التكفيري) في سجون أبوغريب وأكثر من مائتي سجن ومعتقل منتشرين على مساحة العراق، موزعين تحت سيطرة كل الأطراف المحتلة، الأمريكي والإيراني والبريطاني، تمارس فيها مختلف أنواع التعذيب الهمجي التي لم يمارس (التكفيريون) عُشرها... ورغم كل أخبار القتل الجماعي الذي يمارسه المتمدن الغربي في العراق بدم بارد، والتي لم يتمكن همجيو القرن الواحد والعشرين من التعتيم عليها بعد أن تسربت الأخبار والصور البشعة عبر إعلام القوى الدولية المتصارعة والمتنافسة في المنطقة العربية... ورغم لعبة خلط الأوراق والغموض المتعمد الذي تلفه تلك الماكينة الإعلامية حول حوادث التفجير والسيارات المفخخة المجهولة النسب والمصدر... ورغم اعتراف التقارير الأمريكية بارتفاع عمليات المقاومة إلى أكثر من مائتي عملية في اليوم مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية والعتادية في صفوف القوات المحتلة... ورغم إن كل أحرار العالم يؤكدون أن المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط قد فشل على يد المقاومة العراقية التي سيكون لها الفضل في تغيير المعادلة الكونية والنظام الدولي الأحادي القطب... ورغم صرخة الطفلة الفلسطينية هدى غالية، التي دوت في ساحل غزة وهزت كل أرجاء المعمورة، وهي تشاهد بعيونها الطفولية أمها وأبوها وأخوتها يتقطعون إربا ويسبحون في دمائهم بفعل صاروخ إسرائيلي (وليس تكفيري)... ورغم كل مشاهد القبح والإجرام الذي أعدم الطفولة في العراق وفلسطين... ورغم... ورغم...، رغم كل ذلك إلا إن مثقفينا (الدعاة) لايزالون يرددون بآفاق معرفية معدومة، وبببغائية مملة، ما تزودهم به ماكينة الإعلام الحربي الأمريكية، حول الإرهاب التكفيري والديمقراطية الأفلاطونية، والإسلام المتطرف والإسلام المستنير، ولا شيء آخر حتى أجل غير مسمى...
صراع العقائد وصناعة سلاح الدمار الشامل
في خضم كل تلك الأحداث نسى المثقفون (الدعاة) إن صراع العقائد بدأ في الدولة اليهودية، في إسرائيل (الديمقراطية)، منذ بدايات القرن الماضي ولم يبدأه العرب... ونسى أولئك أيضاً أن يبحثوا في مواقع الإنترنت عن تاريخ قطع الرؤوس في حروب العصر الحديث ليتأكدوا بأن القوات الأمريكية تعد أول من مارسه ضد المقاومة الفيتنامية في حرب فيتنام الذائعة الصيت، وهو ليس بدعة إسلامية عربية... ونسى أيضاً أن صناعة سلاح الدمار الشامل وأبشع ذخائر وصواريخ وقنابل الإبادة والقتل الجماعي تعد من أربح منتجات الحضارة الغربية وليس العربية، ونسى أولئك إن حروب تدمير وسحق البشر والمدن لم يمارسها العرب "الإرهابيون" المتطرفون والتكفيريون بل مارستها وتمارسها حتى اليوم الحضارة الغربية المتمدنة... وأخيراً نسينا جميعاً، للأسف الشديد، بأن العرب والمسلمون منذ قرون طويلة، منذ غزوات المغول وبعدها الصليبيون وحتى يومنا الحاضر، يحاربون دفاعاً عن النفس فقط ولم يعبروا المحيطات بأساطيلهم الحربية للهجوم والتنكيل بالأمم الأخرى... والأهم من كل ذلك، نسى أولئك الدعاة إن الشارع العربي لجأ إلى التيار الإسلامي (الظلامي والتكفيري) على أمل أن يجد فيه البديل القادر على المقاومة عملاً بمبدأ "لا يفل الحديد إلا الحديد"، بعد أن خذلهم أولئك المثقفون والسياسيون التنويريون (الدعاة)، خصوصاً بعدما وقّع هؤلاء على وثيقة الاتهام ضد العروبة والإسلام التي وصمت الشخصية العربية المسلمة بالإرهاب والعنف. (مع تحفظنا على تاريخ تيار الإسلام السياسي المتعدد الأبعاد)
وبعد ذلك، ألا يستحق هؤلاء الدعاة أن نوجه لهم دعوة المفكر الفرنسي، ريجيس دوبريه، بأن يعودوا إلى جحورهم ليتأملوا العالم ويكفوا عن الإدلاء بدلوهم في الشأن العام؟...