إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في البحرين، راقب ما يحدث في لبنان..

في العام 1953، وفي إحدى جلسات المحكمة العسكرية التي كانت تحاكمه بعد فشل محاولته الانقلابية على نظام الشاه، قال الدكتور محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني الأسبق، وبطل تأميم النفط الإيراني، "يا حضرات القضاة، إن الفيلق الديني الذي وقف معكم لإسقاط حكومتي، لو تحلقون لحاهم سترون على رقابهم ختماً يقول (ساخت إنجليز) أي صنع في إنجلترا" (من جلسات المحاكمة العسكرية للدكتور مصدق)... وضجت قاعة المحكمة لهذه المقولة بصرخات ثائر رافض للمحاكمة وساخر مستنفع منها..
وها نحن نعيش اليوم أحداث لا نجد لها تفسيراً لشدة تضاربها مع مصالحنا الوطنية إلا بما قاله هذا الحكيم الإيراني الوطني قبل أكثر من نصف قرن..

ومن هناك ننطلق لنفسر أحداث البحرين المرتبطة بأحداث المنطقة أكثر من علاقتها بأية مصلحة أو هدف وطني أو قومي، وآخرها هو الحدث الذي خلقته كتلة نواب جمعية الوفاق بمقاطعتها جلسة افتتاح المجلس الوطني البحريني للفصل التشريعي الثاني في 15 ديسمبر 2006.. ولشدة إتقان حبكة هذه الأحداث باتت تشكّل جزءاً من الثقافة الموجهة الى البسطاء من الشباب المغرر بهم بتوجيه أيديولوجي يعتمد على الخواء السائد في وعيهم الفلسفي والعلمي وافتقار الخطاب الديني السائد إلى العقلانية.
في منطقتنا العربية تتسلسل الأحداث دون تدوين، فنفقد طريقنا في مواجهتها.. ولذلك سنبدأ من بعض البدايات التي جاءت للمنطقة بحروب وصراعات وخلافات لها أول وليس لها آخر.. من المحطة الأولى، هناك حيث بدأت فكرة تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، بدءاً بالمنطقة العربية.. من فكر آية الله الخميني الذي "يرفض أي نوع من أشكال التدخل الخارجي في أي شأن من شؤون الدول الأخرى"، وينفي ذلك بمقولة أخرى بقوله إنه "حيثما وجد كفاح ضد المستكبرين فسنكون موجودين،، نحن نهدف إلى تصدير ثورتنا إلى كل الدول الإسلامية بل إلى كل الدول حيث يوجد مستكبرون يحكمون مستضعفين".. هذه الفكرة التي تقول عنها الدكتورة نيفين مسعد في كتابها "صنع القرار في إيران، ص 63" إن الخميني "يميز بين حروب هجومية لا تلجأ إليها إيران لتصدير ثورتها، وحروب دفاعية تضطر إليها اضطرارا، لكن الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم حدود شديدة الالتباس في واقع الأمر. ولقد عبّر رمضاني، المحلل السياسي الإيراني (المعارض) عن هذا الالتباس بدقة فأشار إلى إنه طالما آمنت إيران بأن حدود الدولة الإسلامية تتجاوز حدودها السياسية كدولة قومية، فإن مؤدى هذا إكساب الدفاع عن النفس أبعاداً تتجاوز الحدود الفعلية للجمهورية الإسلامية. ودلّل على سلامة تحليله بتطوير إيران حربها في العراق من الدفاع إلى الهجوم (R.K. Ramazani, “Iran’s Islamic Revolution and the Persian Gulf” / 1985)...
أما التكتيكات المتبعة في تصدير هذه الثورة فقد أوجز هاشمي رفسنجاني أهم بنودها بقوله "إن دعم الحركات التحررية دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول يبدو مشكلة، ولكن الفاصل بين الأمرين دقيق جداً. إننا نحاول أن لا نتدخل... إننا لا نقوم بالعمل بأنفسنا، إننا لا نقوم بعمل فيزيقي داخل هذه الدول إلى الحد الذي يحسب تدخلاً، ونقوم بالدعم. وهذه المسألة تنطبق على جميع الدول، وإن كل دولة تدعم نوعاً من الأحداث آخر الأمر، وليس معنى هذا الدعم تدخلاً بالضرورة" (د. مسعد "صنع القرار في إيران").
وضمن هذا المشروع المعلن لتصدير الثورة الخمينية وتكتيكاته، نستذكر حديث حجة الإسلام فخر روحاني، سفير إيران في لبنان في بداية ثمانينيات القرن الماضي، في حوار له مع صحيفة إطلاعات الإيرانية في نـهاية يناير 1984 (بعد انتهاء فترة عمله في لبنان)، وهو يقول "لبنان يشبه الآن إيران عام 1977، ولو نراقب ونعمل بدقة وصبر، فإنه إن شاء الله سيجيء إلى أحضاننا، وبسبب موقع لبنان وهو قلب المنطقة، وأحد أهم المراكز العالمية، فإنه عندما يأتي لبنان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية، فسوف يتبعه الباقون".. وروحاني هو أيضاً من صرّح لصحيفة النهار اللبنانية في 11/1/1984بأن "لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية"..
وضمن هذا المشروع، اجتمع الخميني بعدد من علماء ودعاة الشيعة اللبنانيين الذي شاركوا في "المؤتمر الأول للمستضعفين" في طهران، وكان من بينهم محمد حسين فضل الله وصبحي الطفيلي وممثل حركة أمل في طهران إبراهيم أمين، لتبدأ الخطوة الأولى في تأسيس حزب الله اللبناني الذي أعلن عنه في عام 1982، وصار عضواً في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي تأسس في طهران عام 1981 كوعاء يضم هذه المنظمات الخارجية، وضم في عضويته أيضاً الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، ومنظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، حزب الدعوة العراقي، وحركة العمل الإسلامي العراقية، وحركة أمل الإسلامية.. ويجتمع هؤلاء بشكل دوري في طهران، ويملكون عدد من معسكرات التدريب الموزعة بين إيران وسورية ولبنان.
فنحن إذن أمام تنظيم عالمي بدأ بمباركة ورعاية خاصة من الخميني تؤدي مهام مزدوجة، محلية وعالمية، وقيادتها في طهران.. وسماتها المشتركة هي العمل على تكتل الشيعة في البلدان العربية وفصلهم سياسياً عن مجتمعاتهم بتمييزهم بحق الشهادة والوطنية، وفصلهم مجتمعياً بتمييز ظروف حياتهم المعيشية بعقدة الاضطهاد وارتباطهم الشديد بالطقوس الدينية المبالغ بها..
وتسارعت الأحداث بشكل لم يكن حتى في حسابات إيران.. وخصوصاً بعد وصولها ومشاركتها في تدمير العراق وتسلّم السلطة فيه بكل القوى الإيرانية المتحركة على أرض السواد اليوم.. حتى وصل طموحها في تقسيم العراق بضم نصف بغداد إلى إقليم الجنوب الشيعي ويكون الخط الفاصل لحدوده نهر دجلة حيث يتم تهجير شعبها من الرصافة (الضفة الشرقية للنهر) إلى الكرخ (ضفته الغربية) بالقتل والخطف والتهجير.. وبذات السرعة يتم تنفيذ السيناريوهات الإيرانية في أهم مرتكزين بالإقليم العربي وهما أولاً: المرتكز اللبناني، وذلك بضبط مسار الهلال الممتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق، وتنفيذ سيناريو "حزب الله" الذي لم يعد طموحه محصوراً بحكم ذاتي في الجنوب بل تعداه ليصبح كل لبنان، بعد حرب صيف 2006 ضد إسرائيل، وقبل أن يفقد هذا الحزب الاصطفاف الجماهيري الذي كسبه بعد الحرب مباشرة... وثانياً: المرتكز البحريني، وذلك بالحصول على مكتسبات جديدة عبر أكبر عدد من مقاعد البرلمان فازت بها كتلتهم الوفاقية بسهولة شديدة، مما حدا بطموحاتهم للتقدّم بالمطالبة برئاسة هذا البرلمان حتى بفعل أخرق مثل عملية مقاطعتها الجماعية للدعوة الملكية بحضور حفل افتتاح المجلس الوطني، بهدف الضغط على القيادة السياسية للتنازل وتنفيذ مطالبهم، على الطريقة التي سارت عليها أمورهم خلال السنوات القليلة السابقة، ضمن نظرية "خذ وطلب"... وهذه هي اللعبة البدائية بالمطالبة بأعلى سقف للحصول على السقف المطلوب.
وهكذا إذا أردتم أن تعرفوا ماذا يحدث في البحرين، راقبوا ما يحدث في لبنان..
وبدراسة كل هذه السيناريوهات في العراق ولبنان والبحرين، وما تحقق وسيتحقق منها لصالح الهيمنة الإيرانية في الإقليم، لا يمكن إلا أن نعيد ما قاله الدكتور مصدّق، "يا حضرات السادة، إن الفيلق الديني الذي يقف اليوم لإسقاط الأمة العربية، لو تحلقون لحاهم سترون على رقابهم ختماً يقول (ساخت إنجليز) أي صنع في إنجلترا"..


كلمات دالة: