مفاوضات أمريكية إيرانية على العراق... لماذا؟

من السذاجة والتبسيط الشديدين القول إن البنتاجون أصدرت قرار الغزو، دون أن تملك خطة اليوم الثاني بعد احتلال العراق... فالخطة الأمريكية لما بعد احتلال العراق هي ما نفذها جي جارنر، وبول بريمر، أولاً: بتدمير كامل البنية التحتية والفوقية، وإنهاء كل مؤسسات ومظاهر الدولة، والقضاء على الخطة التنموية التي تميّزت بها العراق علمياً واقتصادياً واجتماعياً، وثقافياً، ونشر الفوضى لتشكيل ضغط اقتصادي وأمني على حياة الشعب العراقي، وانشغاله عن مواجهة ومقاومة الاحتلال، ثانياً: تغيير ديمغرافية العراق وخلق عصبيات طائفية وأثنية تتوزع في كيانات سكانية متصارعة ومعزولة عن بعضها البعض، وإلغاء فكرة دولة العراق، التي يراد إنكار وجودها جغرافياً وتاريخياً، لتحل محلها أقاليم متنازعة في نظام فيدرالي قد يكون جديداً من نوعه لعدم تشابه الديمغرافية العراقية لأية فيدراليات أخرى في العالم، ثالثاً: المحافظة على ولاء تلك الكيانات للإدارة الأمريكية، رابعاً: والأهم، هو السيطرة الكاملة على منابع النفط العراقي، وما تحويه الأرض العراقية من موارد ثرية...


مع نجاح خطة التدمير بعد الاحتلال اعتقد قادة البيت الأبيض أنهم قد حققوا النصر المبين، فبدأوا بتنفيذ الهدف الثاني فاحتاجوا للمساعدة من الطرفين ذوي المصلحة المباشرة في نجاحه، وفي تشكيل عراق الطوائف والقوميات المتصارعة، وهما إيران من خلال منظماتها في جنوب العراق، والحزبين الكرديين في الشمال... وهذا ما دعاهم لترتيب أوراقهم مع إيران والحزبين الكرديين، منذ ما قبل بدء الغزو، ليؤدي كل طرف دوره في تسهيل المهمة الأمريكية في العراق... هذا التعاون الذي صرّح به محمد أبطحي، مستشار الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، في ديسمبر 2004 في ختام أعمال "مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل" في أبوظبي، قائلاً "إن إيران قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق"، وأضاف "أنه لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابل وبغداد بهذه السهولة"، فكانت المكافأة التي قدمتها الإدارة الأمريكية لإيران هي اختيارها عبد الكليم خليلي، من "حزب الوحدة" الموالي لإيران في أفغانستان، ليكون نائباً للرئيس الأفغاني الموالي لأمريكا، حامد كرزاي... أما في العراق، فجاءت المكافأة بالسماح لقوات بدر، التي تعد بمرتبة جيش مدرب تابع لقيادة حرس الثورة الإيراني، بكامل أفرادها وقياداتها الإيرانية، وكامل عتادها عدا الأسلحة الثقيلة، بدخول العراق بهدف إشراك إيران في الاحتلال. ولا نزال نتذكر مشاهد ذلك الموكب الرهيب الذي دخل به محمد باقر الحكيم وإخوانه إلى البصرة دخول الفاتحين، عبر الحدود الإيرانية، في مقدمة قواتهم (قوات بدر)، ليبدأ النفوذ الإيراني منذ ذلك اليوم بالتمدد والتحكم في كل الساحة العراقية، حتى وصلت إيران اليوم إلى قمة السلطة وصناعة القرار العراقي، من خلال حوزة النجف الدينية التي تحولت إلى حوزة إيرانية، ومن خلال مؤسسات الحكم، والمنظمات الاستخباراتية والمخابراتية والمعتقلات والسجون السرية ومليشيات القتل والمقابر الجماعية والتعذيب الذي أصبح مكشوفاً أمام العالم.
ولكن الخطأ الذي وقعت فيه هذه الإدارة هو عدم توقعها نشوء مقاومة قوية منذ اليوم الثاني من الاحتلال مباشرة، حسب ما جاء على لسان الناطق الرسمي للقوات الأمريكية في العراق على فضائية أي إن بي (a n b) اللبنانية (10 مارس 2006)، شارحاً ظروف الأزمة الأمريكية المتفاقمة في العراق، قائلاً بالحرف "إننا لم نتوقع نشوء مقاومة بهذه القوة"... إذن هذه المقاومة واستمرارها وقوتها المتزايدة كل يوم، هي العنصر الرئيسي وراء إضعاف القوات الأمريكية وإفشال الخطط الكبرى التي وضعتها الإدارة اليمينية في البيت الأبيض، لاحتلال العراق. أما الاعتراف الأمريكي بوجود هذه المقاومة العراقية التي تصارع أكبر قوة عسكرية في العالم اليوم، لهو دليل على إن كل محاولات البنتاجون ووسائلها الإعلامية لفرض التعتيم على وجودها وقوتها، أو تشويه صورتها الحقيقية باتهامها بتلك التفجيرات العشوائية التي تودي بحياة المئات من المدنيين العراقيين يومياً لم تتمكّن من أن تحقق أهدافها، فتمكنت المقاومة من إيصال صوتها إلى كل مكان، ليشاهد الناس كيف تحولت المقاومة في العراق إلى "دولة المقاومة" التي تحمي العراقيين من الاحتلال الأنجلوأمريكي، والصهيوصفوي الذي حرمهم من الأمن والأمان والتنمية والاستقرار منذ ثلاث سنوات، مات ويموت خلالها أكثر من 500 عراقي كل يوم، حسب إحصائيات ما تدعى بـ (الحكومة العراقية) الحالية.
لم تفلح كل وسائل الإدارة الأمريكية، والمخابرات البريطانية الأكثر دهاءاً وخبثاً في العالم، من السيطرة والقضاء على المقاومة، بل اصبح الشعب العراقي أكثر التصاقاً بها، لما توفرها لهم من حماية ضد فرق القتل التي تداهم الأحياء والبيوت لقتل العلماء والأكاديميين العراقيين، وتنشر في المساجد قوائم بأسماء الطيارين العراقيين الذين شاركوا في الحرب ضد إيران، بحثاً عنهم وقتلهم واحداً تلو الآخر، واعتقال وتعذيب وقتل العراقيين على الهوية. لم تفلح الخطط الأمريكية، لذا لازالت محاولاتها مستمرة لإشعال حرب طائفية أهلية في العراق، بهدف تعويم نشاط المقاومة وتقسيمها وإضعافها... وكانت التفجيرات الأخيرة في ضريحي الإمامين العسكريين، في سامراء، أكبر تلك المحاولات حجماً، لذلك مارس العراقيون، شيعة وسنة، أقصى درجات ضبط النفس لتمرير الحادث بسلام وإفشال المخطط الاحتلالي الأمريكي الصفوي ضدهم، رغم كل ما لحق تلك التفجيرات من استفزازات قاسية وإجرامية.
وبالنتيجة، ولأن الهزيمة الأمريكية في العراق تعني نهاية المشروع الإمبراطوري، ولأن الهزيمة أصبحت قاب قوسين وأدنى من أبواب البنتاجون، لم تجد الإدارة الأمريكية أمامها بداً من اللجوء إلى الحليف الإيراني، طلباً للإنقاذ من جحيم الهزيمة في العراق، عبر مسرحية عبدالعزيز الحكيم في مطالبة إيران لقبول التفاوض مع الولايات المتحدة، وتتالي قبول الطرفين لذلك العرض، ليتفق أعداء العراق والعروبة والإسلام على تنفيذ خطة تقسيم العراق، بدعوى إضعاف المقاومة وحصارها...
وإذ إننا واثقون من تصاعد قوة المقاومة، حجماً ونوعاً، مع كل خطة جديدة يضعها المحتل، الذي بات يترنّح تحت قوة قبضتها... فإننا نسأل أنظمتنا العربية قاطبة، في الذكرى الثالثة للغزو والاحتلال، وبدء تنفيذ المخطط التقسيمي في العراق، وما سيحمله ذلك التقسيم من تبعات خطيرة على كل المنطقة، نسألهم، ماذا هم فاعلون؟، وكيف سيحمون شعوبهم من النيران القادمة مع الرياح الإيرانية... ؟، وهل لازالت الأنظمة الخليجية تعتقد بأن القوة الأمريكية أو الإنجليزية في المنطقة تعمل على حمايتها ضد الخطر القادم من الضفة الأخرى؟...