منظومة القيم والمعايير (5) عقلية بناء الجمال...

ككثيرين غيري، عند زيارة دول العالم "المتقدّم"، ينتابني شعور عميق بالحزن والأسف على "تخلف" دولنا العربية، وعلى كل ما فَقَدَته أمتنا من علم وحضارة كانت سبّاقة بهما لقرون، وما فَقَدَته من ثروات طائلة كانت وبالاً عليها وخيراً على الأمم الأخرى التي برعت في استثمارها بتطوير حضاراتها بعلوم كانت الأرض العربية منبتها...
فوق سماء تلك الدول، تسقط النظرة الأولى من الطائرة، على خرائطها الطبيعية المنبسطة كالسجاد المفروش بعناية ودقة، مرسومة رسماً بالمسطرة لتحدد مناطق الزراعة عن الصناعة، والمدن عن القرى.

وكلما اقتربت الطائرة أكثر من الأرض، ومن سماء تلك المدن والعواصم ينتقل البصر، نقلاً حياً، بين مفهوم ومعنى تخطيط المدن الكبرى وبين مفاهيم المدنية الحديثة الملتزمة بقيم ومعايير فنية عميقة، أهمها التناسق الكبير بين الخطوط التي تقسّم هذه المدن طولاً وعرضاً لتبدو خريطتها بما تحمل من ألوان منظراً مريحاً للناظرين. ومع هبوط الطائرة أكثر وأكثر تبدو بوضوح مدى الاهتمام والعناية بقيم الجمال التي التزمت بها الإستراتيجيات التخطيطية لهذه المدن، وأهم تلك القيم هو التوزيع والفصل اللازم بين مناطق العمران السكني والتجاري، والتناسق بين نسبة العمران والشوارع وبين المسطحات الخضراء والمائية التي تحتاجها المدينة، والتناسق بين امتدادات الشوارع والطرقات الممتدة بين المباني السكنية في المناطق السكنية العمودية والأفقية. وقبل وصول الطائرة إلى الأرض تبدو أسطح المباني في تلك المدن وكأنها لوحات فنية مرسومة بالألوان الزيتية والمائية دون أن تشوبها شوائب ما تبقى من مستلزمات البناء والنجارة، ودون أن تخزن عليها كل نفايات المبنى وساكنيها.
لا يمكن للناظر إلى مشاهد جودة التخطيط والبناء في هذه الدول إلا أن يؤكد بأن المشرعين والمخططين والبناة يتمتعون بتفكير استراتيجي، طويل الأمد، وواسع الأفق. وإن عقلية هذه الشعوب تهتم بالعمق الزمني، والمد الحضاري في بلدانها، وأهم مقومات قوة هذا النمط الفكري هو ما يحصل عليه من حماية تشريعية تطبق على جميع أفراد ومؤسسات الدولة سواسية، دون استثناءات أو تجاوزات، وإن مبدأ "القانون فوق الجميع" هو الذي يحمي هذا النمط الفكري الذي تعيش وتعمل به شعوب هذه الدول التي تعتني بأن تبني بلدانها بنفسها، وليس بالأجنبي. ولا يمكن للمتمعن في حضارة التخطيط العمراني لتلك الدول إلا أن يؤكد بأن أبنائها يضعون كامل طاقاتهم وفائق عنايتهم في إنجازاتهم الحضارية التي يعيشون فيها حياتهم وحاضرهم، ليخلفوها لأجيالهم القادمة وهي صالحة للتطوير والتوسع حسبما تتطلبها أزمانهم.
إنها عقليات تخطيطية ذات أبعاد متعددة، بدءاً من البعد الإستراتيجي الأفقي والعمودي، إلى بُعد الإتقان عالي الجودة، بُعد المعايير والقيم الخاصة بالمكان والزمان، البُعد الفني والجمالي، والأهم هو بعد الديمومة وقابلية التوسع والتطور المستمر، وأخيراً البعد الإنساني الذي يهتم بالبحث عن سبل الراحة اللازمة لتوفير الوقت والجهد في زيادة الإنتاج والموارد وعلاقة كل تلك الأبعاد بالبعد القانوني والتشريعي الذي يُسَخّر لتحقيق كل تلك الأبعاد دون تجاوزات أو إختراقات.
وبمقارنة كل ما سبق مع عالمنا العربي، الإنسان والأداء، نرى الهوة الكبيرة ما بين العقليات التخطيطية هناك والإنجاز الضعيف الخالي من كل المقومات الحضارية والعصرية هنا...
فالمدينة العربية أصبحت امتدادا للقرية، والتخطيط والبناء فيهما خاليان من كل معايير الجودة والإتقان والجمال وسبل الراحة... ففقدت كل مدننا سماتها، واكتسبت سمة العشوائية التي تبدو واضحة في اختلاط المناطق التي لا يضمن المواطن أن يبني في أي منها سكناً يعيش به بعيداً عن ضوضاء التجارة والخدمات اليومية، دون أن يجد منزله، وقبل اكتمال بنيانه، محاطاً بالمحلات الخدمية والتجارية، وبشكل عشوائي قبيح الشكل والمضمون...
وبجانب كل ذلك، فإن مدننا العربية عموماً فاقدة لكل المعالم المميّزة بين الطريق والشارع والرصيف في الأحياء الراقية والشعبية، وبين المدينة والقرية، وبين مناطق العمران السياحي والتجاري والعمران السكني الخاص.
أما الحدائق العامة، الصغيرة منها والكبيرة، فأصبحت في حكم النسيان، وإن وجدت فإنها تتحول بعد فترة قصيرة إلى ملك خاص، حسب قانون وضع اليد، لتتحول إلى مورد ثروة لمالكيها.
ويصل سوء الوضع التخطيطي العربي، على سبيل المثال، في جزيرة جميلة ومشرقة مثل البحرين، لحد لم يعد يرى فيها المواطن سواحل عامة يمكن التنزه بها، أو استخدامها كشواطئ عامة وآمنة للسباحة، بعد أن تم استملاك كل سواحل جزيرتنا الجميلة، أو ردمها لتوسيع الرقعة العمرانية بالامتداد داخل البحر، فبات سكن البحرينيين بالقرب من السواحل حلماً، أو ذكريات قديمة يتذكرها كالحلم الجميل، بعد أن أفسد ردم البحر جمال كل تلك المناطق والأحياء الساحلية الشعبية الجميلة التي عاش فيها البحرينيين سنوات طفولتهم، ولم يعد من حقهم حتى أن يحلموا بمنزل قريب من سواحل طفولتهم الجميلة.
ونكتفي بذلك عن الدخول في موضوع سوء التخطيط وعلاقته بإفساد وهدم البيئة...
فأي عقلية هذه التي تهدم الجمال!؟، وكيف يمكن أن نخلق شعباً بنفوس جميلة في بيئات خالية من المعايير والقيم الإنسانية الإيجابية المحافظة على الذكريات والاستقرار والحلم بمستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً؟؟!
إلى شواهد أخرى في كتاباتنا القادمة...


كلمات دالة: