الأمن القومي العربي... أين حدوده ووسائل حمايته؟!

في كلمته العاطفية أمام اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت، يوم الاثنين 7 أغسطس 2006، صمت الرئيس فؤاد السنيورة للحظات، متأثراً من الموقف، ليعبّر عما بداخله، مستنجداً بالعرب، قائلاً بصوت متهدج: "إن عروبتنا غير مشروطة، ليست عروبة إرغام، إنها عروبة اختيار والمسؤولية والالتزام، وإن دعمكم ومساعدتكم لنا واجب ومسؤولية... وإن الأمن العربي أمن واحد، وإن المستقبل العربي مستقبل واحد"، قالها الرئيس السنيورة وهو يبكي على لبنان المدمر..

ومسح دموعه ليسترجع أمام الحضور مقولة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، التي ذكرها في مقتل الخليفة عثمان بن عفان "أُكلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض"، مذكراً العرب بأن الحرب التي شُنّت على لبنان دون أن يكون لهم فيها عِلم أو قرار، لن تنتهي عند حدود لبنان، والمخطط مستمر على كل الأرض العربية، لأن مصير هذه الأمة واحد، وأمنهم القومي واحد لا يمكن تجزئته بين الأقطار العربية فرادا...
لربما لم تكن كلمات رئيس الوزراء اللبناني بجديدة، وليس هو أول من طرحها، ونذكّر بأننا قلناها بعد تدمير العراق، وإنهاء دوره الاستراتيجي الهام في المنطقة.. ولكن يبدو إن كل المصائب والنكبات التي مرت على أمتنا خلال قرن من الزمان لم تكن بالوضوح الكافي ليستدرك العرب، ومعهم لبنان، مدى ضعفهم فرادا، ومدى ضياعهم كأجزاء صغيرة في مهب ريح أحداث العالم، حيث يتم تحديد مصيرهم ورسم مستقبلهم، قطراً قطراً، في غرف العمليات الأجنبية ليفاجأ كل قُطر بنفسه أمام أحد الخيارين، الاستسلام للهيمنة الشاملة أو التدمير الشامل، وليُفاجأ كل نظام بإصابته في مقتل دون علم بالأسباب أو قدرة على الدفاع... فيا ترى هل كان العرب بحاجة لنكبة لبنان التي تخطى فيها الفجور الإسرائيلي والأمريكي كل الحدود، ليعلموا إن مصيرهم واحد، وإن أمنهم القومي واحد، ومستقبلهم واحد؟، وهل هم بحاجة دائمة للتذكير بمسؤولية عروبتهم الإلزامية؟.. وهل كانوا بحاجة لمشاهدة تدمير لبنان من شماله إلى جنوبه، بسبق الإصرار والتعمد، بعد تدمير العراق، ليعرفوا إن مصيرهم جميعاً، متفككين، في مهب الريح؟... وهل هم بحاجة دائمة لسماع أصوات القنابل والصواريخ وصراخ الأطفال والأمهات الثُكلى والعربيات المغتصبات ليعلموا مدى قسوة المجتمع الدولي الذي لا اعتبار لديه لغير المصالح؟، وإن القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على رسم أدوارها الجديدة في النظام الدولي الجديد تعمل حثيثاً في رسم المخططات لهذه المنطقة مادام أهل الدار صامتون، لا حول لهم ولا قوة؟؟!!.
من الواضح من المشهد العربي الحالي، إن الحرب الآثمة التي شنتها إسرائيل على لبنان بشكلها الهمجي القبيح، الذي بات سمة هذا العصر الأمريكي الوحشي، ما هي إلا خطوة نحو تحريك الركود الذي أصاب الاستراتيجيات الغربية المرسومة للمنطقة، منذ ما بعد احتلال العراق. ولأن هذه الاستراتيجيات وبدائلها المعدة مسبقاً تلقى صعوبات متناهية في تمريرها على الشعوب في هذا العصر الاستعماري الجديد، على عكس ما تم تمريره من مشاريع استعمارية في بدايات القرن الماضي، لذا بات لزاماً على مهندسي تلك الاستراتيجيات تشغيل آليات وذرائع ومبررات جديدة تمهد الطريق نحو أهدافهم..
إن عمليات القتل الجماعي والمذابح البشرية والتدمير التي تُمارَس كلها في فلسطين والعراق ولبنان من جهة، والصراعات الطائفية والأثنية، والمشاكل السياسية والحدودية المتصاعدة، وعمليات العنف والاتساع اليومي للفجوة بين الشعوب وأنظمتها في كل الدول العربية من جهة أخرى، باتت تتفاعل لتشكّل، الآليات والمبررات والذرائع المباشرة في تفكيك وتقطيع أوصال المفكك والمقطّع من الأرض العربية، وفي إنهاء هويتها وإخراجها من التاريخ تحقيقاً للمشاريع الاستعمارية الجديدة. هذه المبررات والذرائع التي خُلقت مبكراً ولا تزال تُخلق كل يوم، ويتم تقويتها وتأجيجها من خلال استراتيجيات سياسية وإعلامية موجهة، مثل تلك التي نعيش في ظل تأثيراتها المباشرة والمخادعة منذ فترة ليست بقصيرة، تلك الذرائع الواضحة والعلنية ستُستخدم كلٍ في وقتها لتبرير تقسيم الأرض العربية حسب الخريطة التي كشفتها وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاجون، خلال فترة الحرب على لبنان، في تقرير بقلم الخبير العسكري، الكولونيل المتقاعد، رالف بيتر، ونشرته مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" تحت عنوان "إعادة هيكلة الشرق الأوسط"، وهي الهيكلة التي أسمتها كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، بـ"الشرق الأوسط الجديد".
تلك المبررات التقسيمية المتصاعدة بخطورة شديدة تمكّنت من توجيه الجهود السياسية والثقافية الوطنية، في كل قطر عربي، نحو الصراعات الطائفية والأثنية، وتُبعد كل القوى عن تلمّس وتشخيص الأسباب والأعراض الحقيقية للتدهور المستمر والمتفاقم في حال الأمة على المستوى القطري والقومي، بدءاً من الهيمنة الاستعمارية الغربية وانتهاءاً بسوء استغلال وتوزيع الموارد وفشل العملية التنموية في المنطقة بمجملها، وبذلك الانشغال التام بالشأن القطري، يضمن المخططون استمرار الضعف العربي وابتعاد شعوب المنطقة عن رصد مشاكلهم الأصلية، وبيت الداء العربي، وبالتالي ابتعادهم عن كل السبل المؤدية إلى إصلاح حال الأمة، وبعث الحياة والقوة في جسدها، بما يمكّنَها من أخذ وضعها الملائم على خريطة العالم والتصدي للمخططات الشيطانية المرسومة لها.
تعيش منطقتنا العربية صراع محتدم بين المشروع الأمريكي التقسيمي "للشرق الأوسط الجديد" وبين المشروع البريطاني الفرنسي التقسيمي (سايكس بيكو) القديم.. بين رسم خريطة استعمارية جديدة تقوم عليها الإمبراطورية الأمريكية أو الإبقاء على ودعم خريطة سايكس بيكو لرجوع المستعمر الأوروبي القديم للمنطقة التي ستقوم عليها إمبراطورية أوروبا الموحدة. يدور هذا الصراع على كل جزء من أرضنا العربية، في فصول مأساوية يدفع ثمنها العرب من أرواح أبنائهم وثرواتهم الناضبة ومستقبلهم المهدد، وفي إضعاف المنطقة بتكريس المزيد من الخلافات العربية العربية والمزيد من الانقسامات داخل المجتمعات العربية، وبعزل الأمة عن المفهوم الحقيقي للأمن القومي العربي، للوصول إلى فوز أحد طرفي الصراع (الأوروبي الأمريكي)، وفرض هيمنة من نوع جديد، على المنطقة، تناسب متطلبات الطرف المنتصر في عصر ما بعد الحرب الباردة.
في العراق، إن الأطراف المستفيدة من تقسيمه إلى فيدراليات، تعمل حثيثاً على تحقيقه على أرض الواقع بدعم من المحتلين، وبموجب ما تم خلقه هناك من خريطة طائفية تُسال عليها دماء أبناء العراق بمختلف طوائفهم، منذ بدء الاحتلال، بالتفجيرات المرعبة في أوساط المدنيين بكل فئاتهم، والتهجير والقتل الجماعي، والفقدان التام للأمن المدني الذي خلقته فرق الموت والعصابات المنتشرة في مجمل أنحاء العراق وبالدمار والفوضى الكاملة على المستوى الرسمي والشعبي. تلك الخريطة باتت الذريعة الأولى للتقسيم بدعوى أهميته لجلب الأمن والاستقرار الضائعين على الأرض العراقية. وبعد استتباب شأن التقسيم هناك، من المؤكد إن الشأن الخليجي سيدخل مرحلة أمنية حرجة جداً يسهل قراءتها منذ الآن.
في الطرف الآخر من شمال الجزيرة العربية، فإن حرب الأرض المحروقة التي فُرِضت على لبنان من 12 يوليو إلى 14 أغسطس 2006، بدت تتضح أهدافها من خلال قرارات الأمم المتحدة التي صدرت لإيقافها والسياسات المتبعة في تنفيذها.. بدا واضحاً إن أحد أهم أهدافها هو تحريك وتغيير النظام الديموغرافي في "الهلال الخصيب" الممتد من لبنان إلى العراق.. والهدف الآخر هو تطويع البلاد لقبول شروط دولية جديدة إعداداً للمضي في الخطوة التالية من الاستراتيجيات الغربية بالمنطقة، لما بعد العراق، ونحو الخطوات التي ستليها..
وفي شبه الجزيرة العربية، من البحرين إلى اليمن، فمجتمعاتها باتت تتأرجح تحت وقع اقتتال طائفي علني وبوتيرة تتحرك بموجب أحداث ووقائع إقليمية لا مصلحة لهذه المجتمعات فيها بقدر ما يكرّس هذا الاقتتال تهديداً للأمن القومي وإضعافاًُ للانتماء والولاء الوطني وخلق وتعميق الخلافات داخل مجتمعاتها حسب طوائفها وأقلياتها وأغلبياتها..
أما الشأن الفلسطيني فأصبح تحصيل حاصل الوضع العربي، الذي كلما زاد ضعفاً وارتهاناً للقرار الخارجي، قل الأمل في الوصول إلى أي شكل من أشكال الانتصار على أرض فلسطين أو تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني على أرضه أو إيجاد حل منصف وعادل يلتزم به الطرفين المتصارعين، وبالتالي تبقى هذه القضية مشتعلة لإبقاء الأمن العربي بأكمله مخترقاً ومهدداً لصالح مشاريع الكيان المزروع على هذه الأرض التي تصب في ،النهاية لصالح المشاريع الغربية في المنطقة...
وبمسح سريع حول أوضاع السودان والصومال والجزائر وحتى موريتانيا، نرى كم أصبح الأمن القومي والسيادي لكل قطر من الأقطار العربية ضعيفاً ومخترقاً ومنفلتاً خارج حدود السيطرة الوطنية والقطرية وحتى القومية..
وبعد ذلك، ورغم كل هذه المشاهد الحية والمتفاعلة بسرعة متناهية، والتي تلوّح لنا بالأخطار الجسيمة المحيطة بدولنا، وبمجمل الأمة، سواء في لج صراع الأقطاب على مناطق النفوذ والثروات في تشكيل النظام الدولي الجديد الذي سيستأثر بقيادته من يستحوذ على نفوذ النفط العربي، أو في خضم الصراع الإقليمي الذي يحاصرنا به الجيران من جميع الجهات بكل الوسائل الثقافية والاستخباراتية والعسكرية المستحدثة، والتي لا تملك دولنا حتى ثقافة التعرف عليها ورصدها وتفسيرها والتصدي لها، أو بتصاعد الصراعات الداخلية بين الأنظمة وشعوبها.. رغم كل ذلك فإننا لا نرى في منطقتنا إلا دولاً لازالت سياساتها تتحرك في إطار ردود الأفعال، عند وقوع النكبات والأزمات، دون أن تتمكن من القيام بفعل مبادر ومباشر وواضح المعالم، بدءاً من تعيين وتعريف حدود الأمن القومي العربي، وانتهاءاً بوضع استراتيجيات وتفعيل وسائل حماية هذا الأمن??!!، في الوقت الذي تنادي الدول الكبرى، غرباً، بأن حدود أمنها القومي تصل إلى منطقتنا العربية، وشرقاً، تصل حدود الأمن القومي الإيراني إلى سوريا، حسب تصريحات الإدارة الإيرانية مؤخرا، وشمالاً، تمتد حدود الأمن القومي التركي إلى داخل الأراضي العراقية والسورية وغيرها.. ولن يكون مستبعداً، أن يأتي من الجنوب، من يرى امتداداً لحدود الأمن القومي الهندي ودول شرق وجنوب آسيا إلى أعماق الخليج وشبه الجزيرة العربية التي تحوي أعداداً من سكان هذه البلدان تفوق أعداد سكانها الأصليين!!.
وفي نهاية الأمر ليس أمامنا سوى انتظار نكبات جديدة ليبدأ مسئولينا بذرف الدموع، وإصدار نداءات استغاثة، وإعلان الشجب والتنديد، وجمع التبرعات، والإعمار، وإعادة الإعمار مرة تلو الأخرى (مادام الخير وفير)، والذهاب إلى المجتمع الدولي لإنذارهم بالإخطار (وليس لتهديدهم)، وللتوسل بإيقاف الحرب بقرارات وشروط رحيمة (وكل مرة تأتي القرارات والشروط أقسى من سابقاتها)..