نعم جلالة الملك "نحن أمة عربية لا يستطيع أحد أن يغيرها..."

في كلمات بسيطة، وبدبلوماسية عالية، وروح مترفعة على الخلافات، أوصل ملك البلاد رأيه ورؤيته في الأحداث الجارية من حولنا إلى الإعلام العربي في جمهورية مصر العربية (أخبار الخليج، 26 آب/أغسطس 2006)، في الوقت الذي تمر منطقتنا العربية بأقسى فتراتها السياسية وأسوأها، منذ ما يقارب القرن... في الوقت الذي يتكالب على هذه الأمة مختلف أنواع الطامعين في أرضها وثرواتها، والحاقدين على تاريخها وعراقتها.. وفي الوقت الذي يخطط أعدائها لتقسيم الأرض والمجتمع، ويحاولون تأليب مشاعر العداء في البيت الواحد، وزرع بذور الكراهية والأحقاد في المجتمع الموحد، ووضع أسفين التفرقة والفصل في الدين الجامع...
وفي استعراضه للأحداث والمستجدات العربية مع كبار ضباط القيادة العامة لقوة دفاع البحرين أكد ملك البحرين مساندته "لكل جهد عربي يهدف إلى تعزيز التضامن العربي، وتوحيد الصف العربي في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة العربية" (أخبار الخليج 28/8/2006).

هذا الاصطفاف الذي بدونه لن يكتب لهذه الأمة النجاة من التهديدات التي تحيط بها من كل صوب، والذي يجب بذل كل الجهود لتحقيقه بالسبل والإمكانيات المتاحة، بعد أن تحولت الخلافات العربية العربية إلى سلاح لإضعاف الأمة وتفتيتها، ووأد مصالحنا حتى قبل أن ترى النور...
منذ أن قسّمت اتفاقية سايكس بيكو الأرض العربية، التي كانت موحدة تحت الحكم العثماني، لم يألو أصحاب هذه الاتفاقية البريطانية-الفرنسية، التي كانت من تركة الحرب العالمية الأولى، جهداً دون تسخير إمكانياتهم في إبقاء هذه المنطقة مقسّمة وبعيدة عن كل تطلعات شعبها في الوحدة العربية، مهما كان شكل أو آليات هذه الوحدة. وبقي هذا النفوذ الأوروبي يقظاً ومستنفراً في الدفع باتجاه عدم التقاء العرب على رأي وعدم اصطفافهم جميعاً خلف مصالحهم، وإبقائهم تابعين للغرب تنموياً واقتصادياً وعلمياً ودفاعياً... ولم يعد خافياً على أحد بأن كل التناقضات الدينية والمذهبية والمناطقية التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم هي من نتاج أصحاب سايكس بيكو، وتم زرع بذورها في تركيب دول المنطقة لضمان استمرار وديمومة الوضع الذي خلقته الاتفاقية.
في يونيو/حزيران 1933 قدّم ج.و. رندل، من الدائرة الشرقية في وزارة الخارجية البريطانية، دراسة إلى الحكومة البريطانية بعنوان "موقف حكومة صاحب الجلالة من مسألة الوحدة العربية"، وذلك بناءاً على طلب حكومته لإيجاد موقف مدروس تواجه به مشاريع القوميين العرب ومطالبهم الوحدوية (رغيد الصلح، "حربا بريطانيا والعراق 1941-1991"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 1994). ومنذ ذلك التاريخ صار ذلك التقرير-الدراسة "أساساً يرجع إليه المسؤولون البريطانيون في تحديد مواقفهم من مسألة الوحدة العربية ومن كل مشروع أو مبادرة تتصل بها"، واستخدمه الزعماء البريطانيون في إفشال كل جهد عربي رسمي وشعبي يهدف إلى القضاء على التشرذم والتمزق العربي الذي يزيدنا ضعفا، والتوجه نحو ً"تنمية وتطوير العلاقات البينية العربية".. وخصوصاً إن هذه الدراسة كانت تضم سجلاً من "آراء ونظرات وأحكام أكثر المسؤولين البريطانيين الذين اهتموا بمسألة الوحدة العربية..." (المصدر السابق).
شمل هذا المرجع البريطاني أهم الرؤى والأساليب أو السياسات التي مارستها حكومة صاحبة الجلالة ولا تزال تمارسها على منطقتنا بهدف التصدي ومنع "أي جهد عربي يهدف إلى تعزيز التضامن العربي وتوحيد الصف العربي".. بدءاً من تعريفه القاصر والمستفز للوحدة العربية التي وصفها بأنها "مفهوم شديد الغموض (...) لا يعدو كونه فكرة غير مختمرة عن التعاون بين الشعوب الناطقة بالعربية، في مجالات التربية والتعليم والدعاية، وكذلك في بعض المجالات الدينية والسياسية مثل قضية سكة الحجاز ومستقبل الأراضي والأماكن المقدسة" (المصدر).. ومروراً بسرد مخاوفهم من هذه الوحدة التي اعتبروا إنها يمكن أن "تزجهم جميعاً (أي العرب) في تيار سلبي لمناهضة النفوذ الغربي السياسي والثقافي في الشرق الأوسط" (نص من التقرير– المصدر).. وانتهاءاً بأهم الأساليب التي على هذه الدول اتباعها في إفشال، ليس الوحدة العربية فقط، بل إفشال كل ما من شأنه أن يقرّب بين وجهات النظر العربية، رسمياً وشعبياً، والتي تم اختصارها بالإشارة، نصاً، إلى أن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف إلى كل حركة ترمي إلى التقريب بين شعوب الأقطار العربية، على إلا تتعارض أهداف هذه الحركة مع المعاهدات التي تربط بريطانيا ببعض الدول المعنية..."، وفي الجانب الآخر أكد إن هذه الحكومة "... لا تستطيع تأييد أية سياسة ترمي إلى تحقيق الاتحاد السياسي للأقطار العربية" (من الوثائق البريطانية، المصدر السابق).
لقد تم ترجمة كل تلك الرؤى المتشددة في تقرير رندل إلى أداء وجهد سياسي محترف ومستمر للحؤول دون تحقيق أي تقارب عربي في هذا الشأن، ونفّذت تلك السياسات أهم الآليات التي وضعها التقرير، وهو التزام الإدارة البريطانية بالسرية والدبلوماسية والتمويه في أدائها المتعلق بإفشال مشاريع التقارب العربي، وأن تقوم "في العلن، على التبرؤ من هذا الواقع. وذهب المسؤولون في أغلب الأوقات، إلى إلقاء مسؤولية فشل المشروع على عاتق العرب أنفسهم وعلى ظروف العالم العربي نفسه المشتت جغرافياً والمنقسم سياسياً.." (المصدر). وبناء عليه، وصل حال الأمة العربية إلى ما هو عليه اليوم، أكثر ضعفاً، وأكثر تفتيتاً، واكثر تبعية، بعد مرور ما يقارب القرن على خريطة سايكس بيكو..
رغم إختزالنا للكثير من المعلومات الهامة المرتبطة بالدراسة التي سميت بـ "مذكرة رندل"، إلا إن ما سردناه كفيل بالإشارة إلى الدور الرئيسي، الخفي والمموه، الذي اضطلعت به بريطانيا منذ بدايات القرن الماضي وإلى يومنا هذا "في تثبيت وحراسة هذا النظام الجديد (سايكس بيكو) من التحديات، وحمايته من القوى المحلية أو الإقليمية أو الدولية التي كانت تسعى إلى تغييره"... لنصحو مع بداية القرن الجديد على "مخاض ولادة مشروع" تقسيمي جديد، يعلم الله كم ستعاني المنطقة وأبنائها من تبعاته وتراكماته الجديدة..
ورغم كل المصائب التي جاء بها رندل ونصائحه إلى هذه الأمة طوال القرن الماضي، وما تعاني منه من أحداث جسام منذ بداية القرن الجديد، إلا إن مشروع التضامن وتوحيد الصف العربي لايزال قائماً، ويزداد العرب اقتناعاً بأهميته طلباً للنجاة من المحن والكوارث التي باتت تهدد مستقبل أجيالهم...
لكل ذلك نقول معكم جلالة الملك، نعم "نحن أمة عربية لا يستطيع أحد أن يغيرها.."، ولن يسلبونا الأرض ولا الهوية.. وكلما اشتدت المحن، ازددنا ثباتاً وقوة وعزيمة، وإيماناً بالعقيدة..


كلمات دالة: