حروب امريكا الخاسرة وانسحاباتها

منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، تورطت الولايات المتحدة في عدة حروب نجحت في الإنسحاب منها، بشكل أو بآخر، بعد مواجهتها بقوة المقاومة وتكبدها لخسائر فادحة، سواء خوفاً على جنودها أو على سمعة قادة البيت الأبيض.. ويمكن أن تندرج هذه الحقيقة على حربها في كوريا وبعدها في فيتنام.. ولكن هل يا ترى إنسحابها من العراق سيكون بمستوى تلك الإنسحابات التي جاءت كلها خلال فترة قمة صراع الحرب الباردة التي تميزت بتماسك المنظومة الدولية الغربية في مواجهتها للمنظومة الشيوعية؟..
لم تكن أسباب إعلان أمريكا الحرب على العراق شبيهة لأسباب الحروب التي شنتها سابقاً.. فلم يكن يشكل العراق أي تهديد للأمن الوطني الأمريكي أو المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.. ولم يكن للعراق أية علاقة بما يدعى بـ"الإرهاب" الذي أعلن بوش الحرب ضده بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.. وهذا ما تكشّف للعالم بالدليل القاطع رغم كل الأكاذيب الأمريكية المحبوكة لصرف انتباه الرأي العام العالمي عن هذه الحقائق..

فهذه الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة ضد العراق بإسم التحرير والديمقراطية، ثبت أيضاً بالدليل القاطع، إن أسبابها اقتصادية بحتة، أي للإستيلاء على ثرواته، واستغلال أهميته الجيوسياسية كقاعدة تمد بها الولايات المتحدة أذرعها الاخطبوطية على آلاف الأميال شرقاً وغرباً، والقضاء على المجتمع العراقي المتجانس والموحد لتزرع مكانه كنتونات طائفية جديدة على النمط والفكر والنظم الأمريكية، كنموذج يمكن تسويقه لباقي الخليج والعالم العربي، بالإقناع أو بالإرهاب، باللين أو بالقوة..
قبل الحرب، شارك عدد كبير من كتاب الرأي في هذه الصحيفة، أخبار الخليج، بنصح جورج بوش وبلير حول عدم امتلاك العراق ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل، وإن الإفتراءات التي تمسكت بها الإدارة الأنجلوأمريكية حول هذه الأسلحة، هي ذريعة من اختلاق أجهزة الاستخبارات الغربية.. وتكَشّف اليوم إن هذين القائدين كانا يطلبان أية ذريعة، وبأي شكل من الأشكال، لشن الحرب على العراق واحتلاله..
ولأن أصحاب هذه الأقلام عالمة بطبيعة الشعب العراقي وتاريخه الطويل مع المحتلين والغزاة، فقد أنذروا قادة البيت الأبيض وداوننغ ستريت من مغبة هذه المغامرة العسكرية.. وحذّروا من أن الحرب على العراق لن تكون نزهة عسكرية بل ستكون عملية دموية باهظة التكاليف على جميع الأطراف وجميع المستويات..
وخلال أربع سنوات منذ بدء الغزو والاحتلال والحرب المستمرة على مدار اليوم والاسبوع والشهر والسنة بدأت تتكشف مصداقية هذه الأقلام.. وبدا نزيف المحتلين عميقاً ومتدفقاً، وارتفع صراخ الشارع الأمريكي، مع ارتفاع معدلات قتلاه وجرحاه وجنوده المقطوعي الأطراف والمشوهين والمعوقين العائدين من العراق، حيث يتجول الآلاف منهم في الشوارع الأمريكية كشواهد حية، متحركة، تذَكّر هذا الشعب ببشاعة ما يجري على الأرض العراقية.. وارتفع معدل خسائره المادية التي يقال أنها قاربت ترليون دولاراً، ولا يزال العداد يحسب دون توقف، حتى وصل الأمر إلى أن يدعو مجلس شيوخ ولاية فيرمونت الأمريكية إلى مساءلة الرئيس بوش وعزله قبل انتهاء ولايته.
من كل هذا، تتكشّف السياسات والنوايا الاستعمارية الأمريكية والغربية البغيضة والبعيدة عن الديمقراطية في منطقتنا.. وبات مؤكداً إن الرئيس بوش وهيكل نظامه الأمريكي لا يعتمدان على سفاراتهم في الدول العربية عموماً إلا على مستوى العلاقات العامة والاحتفالات باليوم الوطني، وإن هذه السفارات تفتقد الحرية الفكرية لتكون ناصحة ومستشارة لحكوماتها في قضايا المنطقة، كما يفتقد العاملين بها الثقافة السياسية التي تؤهلهم لاستنباط أو استنتاج أو استدراك العقل العربي لتفيد به حكوماتها.. وهذه السفارات، رغم أنها تعيش في بلداننا، إلا إنها تمارس دوراً مستسلماً ومنفذاً للأوامر والفرمانات التي يصنعها القابعون في البيت الأبيض من على بعد آلاف الأميال الجغرافية والفكرية والعقلية عن حقائق الأمور في هذه المنطقة.. أي إن السفارات الغربية سواء الأمريكية أو الألمانية أو البريطانية هي ليست بأحسن حالاً من السفارات العربية المتهمة أنظمتها بالدكتاتورية.. فهذه إحدى الشواهد والدلائل على أن الأنظمة الغربية بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، بل أنها تعد دكتاتورية متطرفة تعمل تحت شعار الديمقراطية لصالح الأسياد الذين يحكمون من خلف الكواليس في عمليات نهب ثروات الشعوب وإفقار ثلاثة أرباع سكان العالم لتتنعّم بها فئة صغيرة من أصحاب الثروات والشركات العابرة للقارات في بلدانهم..
واليوم، بعد أربع سنوات من الاحتلال، تحولت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا إلى غول قبيح ومكروه من كل شعوب العالم، بعد هذه السنوات التي مارستا خلالها أبشع السياسات اللاإنسانية على أرض العراق، وحولا الشعب العراقي الثري بموارده والآمن والمستقر بمجتمعه إلى شعب فقير مشرّد ولاجئ يفتقد الأمن والاستقرار على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فإنه لم يعد ممكناً أن يعتقد أي إنسان بأن ما جرى كان خطأً وقعت به إدارة الاحتلال الأنجلوأمريكي في العراق بسبب معلومات إستخباراتيه خاطئة.. وحيث أن كل تلك السياسات لازالت مستمرة بدءاً من الاحتلال إلى التعذيب في السجون إلى التدمير والنهب والإذلال اليومي للشعب العراقي.. مروراً بالتعاون مع إيران وإطلاق يد الجارة الشيعية للانتقام من الإسلام السني لإثارة فتنة طائفية في المجتمع العراقي.. وانتهاءاً بالتقسيم المستمر على أرض الواقع بين السنة والشيعة في كل حي وزقاق وشارع ومدينة عراقية.. ومع الإصرار الأنجلوأمريكي في تفجير المدن والأسواق والجسور والأنفاق، واستمرار سياسة الأرض المحروقة هذه التي تمارسها إدارة الاحتلال في المدن العراقية.. بعد كل هذا لا يمكن إلا أن نؤكد إن ما حدث ويحدث في العراق هو عمل ممنهج ضمن استراتيجية أنجلوأمريكية لانهاء وجود هذه الدولة وضمن مشروعها الشرق الأوسطي التفتيتي الذي لاتزال تضع لبناته هنا وهناك على ضفتي الخليج حيثما توفرت الكثافة السكانية الشيعية..
وهنا نتساءل.. سواء سقط جورج بوش وتوني بلير قبل انتهاء فترة رئاستهما أم لا، يا ترى هل من سيأتي بعدهما سيستمران بالعمل في ذات السياسات الانجلوأمريكية البشعة التي حوّلت العالم إلى غابة صراع وحشي يحاول فيها القوي ابتلاع الضعيف وسفك دمه بلامبالاة بالمواثيق الدولية أو الاعراف الإنسانية!!؟.. أم إن القادمون الجدد سيتعلمون قليلاً من هذه الفجيعة التي أدت إلى دمار كامل لدولة وشعب.. وحولت إرض العراق إلى مصائد بشرية وسوق نخاسة يباع فيها الإنسان أو يُقتل بثمن أو بدونه؟!!. حيث قُتِلَ حتى الآن مليون عارقي، وشُرّد 4 مليون منهم، وسُرِق علناً 8 مليار دولار نقداً، ويعاني 70% من البطالة وانعدام الموارد، ويُسرق من نفطه ملايين البراميل يومياً من آبار نُزعت عنها عدّاداتها لكي لا تعد وتحسب حجم الكارثة، ليدعم به السيد بلير "نمو الاقتصاد البريطاني الذي ارتفع بمعدلات كبيرة ووفّر حياة أنعم لشعبه" (خطاب بلير، 10 مايو 2007)... لقد دمروا العراق، فبعد أن كان دولة ذات سيادة ومكانة بات اليوم أرض مفتوحة للعصابات والقتل على الهوية والفاحشة وبنات الهوى وتجارة المخدرات والحشيش وتداول الإبر المخدرة وحبوب الهلوسة، والنهب وسرقة الأعضاء الجسدية والإيدز وانعدام كامل للأمن، حيث لا يُرسل طفل عراقي إلى المدرسة بدون حراسة وبات خطف الأطفال أمر سهل جدا لينتهي المطاف به إلى المستشفى وقد سرقت كليته أو إلى جثة ملقاة في إحدى المزابل.. ودمرت مصانع العراق وشركاته وجيشه وحضارته وأرضه واقتصاده والإنسان نفسه.. هذا هو عراق العلماء والابداع والأصالة والحضارة، بعد أن مسته يد الغول الانجلوأمريكي... ويقال إن ما حدث كان خطأً غير مقصوداً..
بعد كل هذا، من المؤكد إن الإنسحاب من العراق لن يكون كالانسحابات الأمريكية السابقة، فلن يتركهم العراقيون أن ينسحبوا قبل أن يدفعوا ثمن ما فعلوه، بحق العراق وشعبه، غالياً..