القومية العربية.. متى ولماذا وكيف..

لربما يعد ما كتبه المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة في "معنى القومية العربية" يعد من أجمل ما كُتِبَ حديثاً في هذا الموضوع الهام والحيوي في حياة هذه الأمة وبظروفها المرحلية الراهنة.. ففي مقال طويل تحت ذات العنوان ذكر مفكرنا إنه رغم إن مصطلح القومية يعد من المصطلحات الحديثة في الأدب السياسي العربي، إلا إن "نشأة الروابط والقسمات التي جعلت الجماعة البشرية العربية قومية واحدة هو عهد بعيد يعود الى ما قبل عصرنا الحديث، وإلى ما قبل استخدام مصطلح "القومية" للتعبير عن هذا الواقع، بعدة قرون". فيؤكد بأن الواقع العربي شهد الصراع بين ثلاثة تيارات فكرية في عصر ازدهار الحضارة العربية، في القرن الثاني الهجري، وكان لهذه الصراعات انعكاساً في الدراسات والأعمال الفكرية التي يمكن أن تعد من تراث العرب في الفكر القومي.
أما هذه التيارات فقد حصرها الدكتور عمارة في، أولاً: التيار الشعوبي: الذي "انطلق من العداء للعروبة والعرب والتعريب" بهدف تفكيك روابط الدولة العربية التي نشأت نتيجة للفتوحات الإسلامية..

وقد اتخذ الشعوبيون سبيل التمايز والتعصب العرقي لإنهاء حركة تعريب هويات الجماعات البشرية التي تعيش في الدولة العربية الجديدة".. ثانياً: تيار العصبية العربية: "الذي بعثه الأمويون لاستغلاله في الصراعات القبلية التي كرسوها لتدعيم سلطانهم.. وثالثاً: تيار القومية العربية: الذي جاء تعبيراً عن أهمية توحيد هوية "أبناء الدولة الجديدة، وليعكس حقائق الواقع الجديد الزاخر بالمصالح الموحدة لأبناء هذه الدولة بغض النظر عن الأصول العرقية والخلفيات الحضارية التي كانت سائدة قبل نشأة هذا الواقع التوحيدي الجديد".
فكما يعد التيار الأول من أهم عوامل ضعف الأمة العربية فإن التيار الثالث كان على مدار تاريخ هذه الأمة يعد من أهم عوامل قوتها الفكرية والمادية والحضارية.. وقد كان المعتزلة أوائل رواد هذا التيار الفكري الذي أبرز المعيار غير العرقي للعروبة، بطرحهم المعيار الحضاري "رباطا جديدا يخلص أبناء العرب القدماء من عصبيتهم ضد الرعايا المتحدرين من أصلاب غير عربية، ويفتح الميدان للاستفاده من كل الحضارات التي تمثل تراث شعوب هذه الدولة الجديدة، باعتبارها ميراثا شرعيا لهذه الجماعات البشرية التي أخذت في التوحيد والانصهار".. وعمل هذا المعيار الحضاري الجديد على إسقاط ما يعلنه الشعوبيون من مبررات لتجييش العداء ضد العرب والعروبة من جهة، "كما أسقط الأسس التي قامت عليها عصبية بني أمية وتعصبهم ضد الموالي" من جهة أخرى.
وقد برز الوعاء الإنساني الجديد للعروبة منذ ذلك التاريخ في مجموعة عوامل أهمها "اللغة العربية الواحدة، والعادات والشمائل والتقاليد الموحدة أو المتقاربة، والولاء الموحد للحضارة العربية الشابه والمستنيرة والمزدهرة"، فإنصهرت في هذا الوعاء الجماعات المنحدرة من أصول متعددة فكونت جماعة واحدة متحدة هي القومية العربية.
أما أهم الأمور التي ساهمت في تنمية العوامل المشتركة لما أسماه الدكتور عمارة بـ"الوليد القومي الجديد" فهي "وحدة الدولة" التي كانت قوية بسلطة مركزية واحدة.. وفي الجانب الآخر كان لوحدة الفكر و"الاعتزاز بالثراء الحضاري الجديد المزدهر" ونمو حركة التجارة من المشرق للمغرب ومن الشمال للجنوب الأثر الأكبر على تطوير ونمو العوامل القومية المشتركة والموحدة لهذه الأمة "حتى في ظل الفترات التي ضعفت فيها السلطة المركزية وازدهرت فيه الدول والدويلات والإمارات.. أما هذه العوامل القومية الموحدة لهذه الأمة والقسمات التي جعلت منها قومية عربية واحدة فقد حددها مفكرنا في 1- الأرض المشتركة، 2- اللغة المشتركة، 3- الأثر النفسي المشترك، و4- "سوق تجارية واحدة واقتصاد متحد، ساعد على بقائها رغم الصعوبات التي كانت تنشأ عن ضعف السلطة المركزية"..
ولشدة أهمية هذه العوامل والقسمات الرئيسية لبقاء ونمو الأمة العربية فإنها واجهت حرباً استعمارية شنعاء عملت على تفتيتها منذ القرن التاسع عشر الميلادي حتى وصل حال الأمة لما هي عليه اليوم، مجزأة، مقسمة، ومنقسمة على نفسها.. هذه الحال التي وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية، جونداليزا رايس، في يوليو/تموز 2006، على إثر الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، بأنها "حالة المخاض العسير لولادة الشرق الأوسط الجديد".. وهو مخاض اصطناعي بدأت أعراضه منذ بداية القرن الواحد والعشرين ويتوقع منه صانعوه أن يأتي بوليد أكثر تفتيتاً وانقساماً بمعالم طائفية وأثنية لا تمت بصلة للعرب والعروبة.. سيأخذ كل جزء هوية طائفة أو عرق أثني ينهي كل ما له علاقة بالقوم أو القومية العربية..
فياترى هل سينجح مشروع إنهاء الأمة العربية؟..


كلمات دالة: