لا حضارة لأمة بدون ثقافة..

يمكن تعريف الثقافة على أنها مجموعة من المعارف العلمية والإنسانية المتفاعلة في كل مجتمع حريص على مواكبة عصره، وهي في ذات الوقت منظومة القيم والمفاهيم التراثية المتوارثة والمتجددة والمختزلة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة في كل مجتمع... لذلك تعد الثقافة، بمختلف فروعها، من أهم عناصر النهضة الحضارية في كل أمة حية، وبتحديد سقف الثقافة يتوقف نمو الأمة وتبدأ سقوطها وموتها..
بناء عليه، ترقى الثقافة إلى كونها من أرقى سمات الشعوب العريقة والمتحضرة، وليس من السهل على المجتمعات اكتساب هذه السمة إن لم تكن الثقافة نابعة من تكوينها بأصالة تراكمية تنهل منها شعوبها، لتطبع بها هويتها، التي تطل بها على العالم، شكلاً ومضموناً.
خلال عقود طويلة خسرت البحرين سمتها الثقافية لأسباب سياسية كثيرة، لسنا بصدد عرضها تفصيلاً، ولكن نوجز أهمها في ما كان مفروضاً على البحرين من سياسات دولية، استهدفت منطقة الخليج بشكل عام في فترة الحرب الباردة، ونجحت في عزلها دولياً وإقليمياً وإبعادها عن أي نوع من المؤثرات الثقافية بالانفتاح المتفاعل على العالم، وبهذه السياسات تم تحديد سقفها الثقافي والحضاري في أضيق نطاق محلي بحت، لإبعادها عن المد التحرري واليساري السائد في تلك الفترة، لتسهيل وضمان فرص الهيمنة الغربية على موارد هذه المنطقة الثرية.. ومع الانفتاح الديمقراطي بدأت البحرين تستعيد عافيتها الثقافية بالتدريج وبخطى متسارعة لتلحق ما فاتها من ثقافات العصر..

وخلال هذه الفترة بدأت البحرين تتزين بطابع ثقافي متميز ومتنوع، ما بين المسرح والفن والادب والندوات الحوارية في جميع أنواع المعارف، السياسية والاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية.. وغيرها، بما يتوافق مع جميع الأمزجة والفئات الثقافية المتعددة والمنتشرة في الساحة البحرينية.. وهي لاتزال لم تُكمل دروبها الأولى في سعيها الثقافي هذا..
وضمن هذه المسيرة الحثيثة تسلّمت سيدة متميّزة مقاليد العمل الثقافي الرسمي في البحرين، لتكمل مشوار من سبقها في هذا المجال، ممن تمكّن من وضع البنى الأساسية لبعض المؤسسات الثقافية والسياحية الأولية كمتحف البحرين وغيره.. وتمكّنت هذه السيدة من أن تصبغ الثقافة في البحرين بطابع أكثر انفتاحاً على العالم في عدة مجالات، بدءاً من إضفاء الطابع الثقافي على المدن والأحياء البحرينية العريقة، وإظهار تاريخ البحرين الحضاري الممتد إلى عصور تاريخية مختلفة، مروراً بإضفاء الطابع الفنى عالي الذوق على مختلف هذه المؤسسات الثقافية والآثارية التي بدأت تشكّل بنية تحتية متينة لقيام سياحة ثقافية تستحق البحرين أن تكون أحد أهم مواقعها العربية، وانتهاءاً بإدخال البحرين في قوائم اليونسكو الثقافية والتاريخية، والانفتاح الفني والثقافي على فنون وثقافات العالم بكل جنسياتها وهوياتها.
هذا ما تقوم به بصمت وهدوء وصبر السيدة مي الخليفة من موقعها كوكيل مساعد للثقافة والتراث والآثار في وزارة الإعلام، وكسيدة بدأت حياتها الثقافية كمؤرخة ومهتمة بتحويل معالمنا الثقافية التي نعيشها اليوم إلى معالم تراثية تتواصل مع الغد، وتتحدث إلى أجيالنا القادمة عن تاريخنا الذي نعيشه، لكي لا تضيع حلقة هذه الفترة دون آثار نورثها لأبنائنا وأحفادنا..
رغم كل المصاعب التي تمر بها هذه السيدة في عملها الرسمي، والتي لا تخفى على أحد في عصر التحولات التي نعيشها، وعصر خرج أبنائه من منظومة ثقافية وقيمية هشة وغير مدركة لأهمية الإنفتاح والبناء الثقافي التراكمي الأصيل والوعي الحصين ضد التهميش والإقصاء العالمي، رغم كل ذلك عملت وتعمل مي الخليفة على بناء سمة البحرين الثقافية بصبر وجَلَد، ونجحت في تأسيس قاعدة ثقافية مؤسسية لا يمكن إلا أن تُحسب لها بجدارة...
خلال فترة لا تزيد على عامين، وبعمل دؤوب، حققت مي الخليفة أهم إنجاز في تاريخ الثقافة وتاريخ القطاع الخاص.. وذلك عندما نجحت بربط الثقافة بالاقتصاد البحريني. لقد خرجت هذه السيدة من الإطار التقليدي للثقافة في منطقتنا لترفدها باستثمارات القطاع الخاص، فتمكّنت خلال هذه الفترة الوجيزة من استثمار ما يقارب ثمانية ملايين دينار بحريني، هي تبرعات من البنوك والشركات البحرينية، في بناء مشاريع ثقافية وترميم المواقع الأثرية، لترفع بذلك من أسهم البحرين في المؤسسات الثقافية الدولية، وتحوّل هذا البلد إلى مقصد سياحي لطالبي الثقافة من كل أنحاء العالم.. ولا تزال هذه المؤسسات والمشاريع ما بين منتهية وفي طور الإنشاء والتخطيط.. وبذلك تحقق مي الخليفة أهم إنجاز ثقافي للبحرين، ولا يزال نشاطها مستمراً.
هذه السيدة التي أعطت للثقافة في البحرين طابعاً ونكهة مختلفين عما كان سائداً في الفترة السابقة، وأبحرت بالثقافة البحرينية نحو آفاق عالمية ضد تيار السياسة والسياسيين الإقصائي للثقافة وفنونها المختلفة.. هذه السيدة تعاني من إطلاقات مدافع تأتيها من جهات مختلفة، بدءاً من فئات محسوبة على الثقافة في البحرين، خائفة أن تخسر مواقعها ومصالحها التي ارتبطت بهذا القطاع على مدار العقود السابقة التي كان لها ما لها في هذا الجانب... وغير منتهية عند حد معيّن في بلادنا العالمثالثية..
وأخيراً، إن كان لنا ما ندعو له لتتمكّن بلادنا من أخذ موقعها على الخريطة الثقافية في العالم بجدارة، فإننا ندعو لأن يكون للثقافة في البحرين هيئتها الخاصة وقراراتها المستقلة في بناء مؤسسي متخصص يضم كل الجهود المخلصة والمتخصصة من أجل التطوير بشكل مستمر ومتواصل وفاعل بدون عوائق في الوقت والجهد والمال..
فياترى متى سيكون للبحرين هيئة عليا للثقافة والتراث والآثار، مستقلة وقائمة بذاتها، قادرة على وضع استراتيجياتها والقائمين على تنفيذها في أجواء متفهمة لهذا النوع من العمل الوطني الراقي!.. للتقدّم بالثقافة للواجهة التي تأخذ منها البحرين سمتها الحضارية التي تستحقها؟؟


كلمات دالة: