تاريخنا في متاحفهم..

لرواد المتاحف والمتخصصين في علوم التاريخ يعد متحف اللوفر، المستلقي على ضفاف نهر السين الفرنسية، أحد أكثر المتاحف رواجاً وتنوعاً في معروضاته ما بين تاريخ الشرق والغرب، وفنون العصور المختلفة، بما لا يسعنا الاسترسال في سرده في هذه المساحة الكتابية البسيطة.. إلا إن ما يهمنا هنا في موضوع هذا المتحف هو أحد أقسامه الكبرى الذي يضم بين أروقته وقاعاته المتعددة معروضات وآثار العالم الإسلامي الممتد تاريخياً من ما قبل الإسلام حتى عصور الخلافة الإسلامية، وجغرافياً من كازاخستان شرقاً إلى أسبانيا غرباً.. هذا القسم الذي لطالما حَرِصْتُ على زيارته في كل زياراتي لمتحف اللوفر الباريسي الشهير، على امتداد ثلاثة عقود..
لن اتطرف لما يتمتع به هذا المتحف من مآثر إيجابية في جوانب كثيرة، بدءاً بمبانيه العمرانية وتنظيمه المتميّز ومعروضاته الثرية وانتهاءاً بما يحصل عليه من عناية وإدارة وتشريعات وقوانين حمائية راقية.. إلا إن ما يهمني هنا عرض ما دار في ذهني منذ لحظة دخولي قسم المعروضات الإسلامية في هذا المتحف في زيارتي الأخيرة له (سبتمبر 2007)..


في كل مرة أدخل متحف اللوفر اشعر بحسرة عالية لعدم توفر اللغة العربية في طقم اللغات الأجنبية (الانجليزية الاسبانية اليابانية، إضافة للفرنسية طبعاً) الذي يستعين به المتحف في عرض التعليمات وشرح المعروضات وتفسير الخرائط والإشارات المتوزعة في أرجائه، رغم إن اللغة العربية تعد أحد أكثر اللغات انتشاراً في العالم، كما تعد أحدى اللغات الرسمية المعتمدة على مستوى الأمم المتحدة.. ولكنني في هذا العام بالذات كانت حسرتي أكبر على هذا الموضوع لثلاثة أسباب، الأول: لأن قسم المعروضات الإسلامية أصبح يضاهي في مساحته ومحتواه أكبر الأقسام الموجودة في هذا المتحف، وإن كل حرف مرسوم على تلك المعروضات من الآثار والقطع الفنية التاريخية هو حرف عربي، سواء كانت لغته المقروءة تركية أو فارسية أو افغانية أو طاجيكية أو غيرها.. وثانياً: لأن رأس المال العربي كان المساهم الرئيسي في تطوير متحف اللوفر في العام 2006 (40 مليون يورو تبرع من الأمير طلال بن عبدالعزيز).. ثالثاً: لأن المعروض في هذا القسم يرجع تاريخه إلى بدء الخليقة وأولى الحضارات البشرية التي ظهرت على أرض العرب.. ورغم ذلك لا يتوفر حرف عربي واحد في كل المتحف، حتى إن مكتباته الرئيسية لا تضم حتى كتاباً عربياً، أو كتيباً استرشادياً واحداً باللغة العربية لوصف المكان بما يحمله من تاريخ وعراقة، من باب التعريف والترويج أسوة بما هو متوفر باللغات الأخرى، مما يثير شبهة التعمّد بأقصاء اللغة العربية قسراً من هذا المتحف الفرنسي العظيم.. فياترى هل يعلم الأمير العربي طلال بن عبدالعزيز بهذا الأمر؟..
ولربما إحساسي بتعمّد تهميش اللغة العربي في هذا المتحف إنعكس على جوانب أخرى لم تطرأ سابقاً في هذه الزاوية من تفكيري.. وأهمها هو التعمّد الواضح في عدم ذكر إسم العراق كحضارة وأرض ودولة قائمة منذ الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، وخصوصاً إن إسم "عُراق (أوراك)" يمتد عمره إلى الحضارة السومرية (أكثر من 5000 سنة قبل الميلاد) وكان يُطلق على عاصمتهم التي تُعد أول عاصمة في التاريخ، ولا تزال تلك المدينة تحمل إسمها في جنوب العراق، ومنها أخذ العُراق إسمه.. واستمر العراق يحمل إسمه على مدار التاريخ وفي ظل كل الظروف التاريخية التي مرت على هذه البقعة من الأرض.. ولكن متحف اللوفر يصر على تسميته بـ(بلاد ما بين النهرين) بينما، على سبيل المثال، يصر على تسمية أرض بلاد فارس، عبر التاريخ، بـ"إيران" رغم إن هذا الإسم عمره اقل من قرن، وهو الإسم الذي أطلق على بلاد فارس وتحديداً في عام 1932م بواسطة العائلة البهلوية، بعد أن توسعت حدودها، في فترة ما بين الحربين العالميتين، باحتلال دول الجوار.. شمالاً احتلت إيران نصف أذربيجان وتم ضم النصف الآخر للاتحاد السوفييتي، وجنوباً احتلت نصف بلوشستان وتم ضم نصفها الآخر إلى باكستان، وغرباً احتلت عربستان وقامت بأوسع عملية تغيير ديموغرافي لهذه الإمارة العربية..
إنهم يسرقون تاريخنا الحضاري العربي، ويكتبون لنا تاريخاً جديداً في إطار الإرهاب العربي، ليصنعوا ذرائعهم في سرقة ثرواتنا في زمن الضعف العربي هذا الذي نعيشه.. إنهم يصنعون أكاذيبهم (أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض) ليؤكدوا صحتها... هذا كان موضوع حواري مع أحد الأصدقاء المؤرخين العاملين لدى اليونسكو، في باريس.. إذ به يفاجئني بأن هذا التعمد في تهميش العربية يمتد إلى منابعه الثقافية في أروقة اليونسكو، حيث جماعات الضغط تعمل بشكل حثيث على حرق القضايا العربية بماء النار، وإخفاء معالمها الثقافية والتاريخية، والأبشع من كل هذا إن ما يجري هناك ملفوف بصمت رهيب، لأن غالبية السفراء العرب المعينين لدى اليونسكو يلتزمون السكوت طمعاً في حصولهم على منصب لدى مؤسساتها عند انتهاء فترة عملهم كممثلين لبلدانهم.. ووقائع هذا التواطؤ الشخصي الرخيص بات مبعث قلق وخوف على مستقبل هذه الأمة وتاريخها.. فهل تعلم الأنظمة العربية بهذه الحقائق ياترى؟..