خطة كيسنجر الجديدة لإنقاذ المحتل من الهزيمة..

أصبح الوضع العراقي على قدر كبير من التعتيم والتعقيد، كما بات على حافة الإنهيار على مستوى قوات الإحتلال التي باتت تواجه الموت في كل شوارع العراق، فتتحاشى التحرك بين الناس، بينما تعمل قياداتها بالضغط عليها ودفعها إلى معارك دموية مفتوحة ومتواصلة، في قيظ العراق اللاهب، بهدف تحقيق نتائج إيجابية للتخفيف من الضغط الشعبي والسياسي الأمريكي المُطالِب بانسحاب هذه القوات من العراق، وهي نتائج مطلوبة قبل سبتمبر/أيلول القادم، موعد تقديم الرئيس الأمريكي تقريره حول الجبهة العراقية إلى الكونجرس.. أما على المستوى الشعبي فيبدو واضحاً أن أحرار العراق، العاملون تحت الأرض، هم من يحميه من الإنهيار الأمني، ليبقى هذا الشعب قادراً على مواصلة المقاومة التي تزداد قوة وضراوة كل يوم..
ولكن هل يخلو الأعداء والمحتلون من الخطط والمؤامرات التي سيواصلون العمل بها لإنهاء دولة العراق كوجود، وككيان وهوية عربية؟..

والجواب المباشر هو لا لن يخلو هؤلاء من الوسائل التي تعمل مؤسساتهم الاستراتيجية على وضعها ومساعدتهم على تنفيذها.. إلا إن العراقيون أيضاً لن يخلوا من وسائل إفشال كل تلك الخطط التي باتت مكشوفة لهم، بوضوح أهداف المحتلين وأكاذيبهم التي ما عادت تنطلي على جاهل.. فلنرى ما هي الخطط القادمة في قاموس الاستعمار الإمبريالي الذي لا يألو جهداً في رسم الغايات المرحلية المطلوبة لتحقيق أهداف استراتيجية الهيمنة على المنطقة العربية الأكثر ثراءاً وأهمية في العالم..
كتب المحلل السياسي المصري، عبدالمنعم سعيد، مؤخراً يقول "وصلت إلى الولايات المتحدة في زيارة عمل فوجدت حديث تقسيم العراق شائعاً بأكثر مما كان عليه الحال من كل المرات السابقة.. بل بأكثر مما يمكن معرفته عند الوجود في العواصم العربية. فعندما تبدأ كل مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية في أمريكا بالحديث عن الموضوع في شكل ندوات ومؤتمرات وبحوث منشورة وغير منشورة، سوف تعرف أن الموضوع قد أصبح مطروحاً على الدوائر السياسية العليا وهي تحتاج إلى المشورة والمعرفة حول نتائج خطوة بعينها.. وعندما يكون الحديث في الموضوع في صيغة خيار واحد لم يعد هناك خيار آخر بعده ولا قبله للخلاص من المحنة الأمريكية في العراق، فمعنى ذلك أن الخيار أصبح قريباً للغاية من دائرة القرار..." (الشرق الأوسط، 25/7/2007).. إذن القرار الأمريكي بتقسيم العراق لازال قائماً، بل العمل به يعد من أولويات السياسة الأمريكية حالياً، وخصوصاً أنهم يروجون بأن "الإدارة الأمريكية قد بذلت أقصى ما في وسعها من أجل وحدة العراق ولكن العراقيين أنفسهم لا يريدون ذلك، وأنهم لا يعتبرون أنفسهم عراقيين في المقام الأول والثاني والثالث، بل أنهم لا يريدون عراقاً من الأصل" (المصدر السابق).. هذا ما يروجون له اليوم بعد كل الفصل الطائفي، والمحاصصة الطائفية والأثنية التي أرسوا دعائمها في صلب مؤسسات الدولة، بدءاً بـ "الدستور" وانتهاءاً بأبسط أعراف المؤسسات التعليمية والمجتمعية والديموغرافية.. ورغم ذلك ليس مستبعداً أن نسمع هذه الكذبة الأمريكية الجديدة من لسان أحد الزعماء العرب، ليبدأ الترويج لتقسيم العراق، مادام العرب لازالوا في سباتهم التي لن يصحوا منه إلا عند وصول الأعداء إلى أبواب غرف نوم الواحد منهم تلو الآخر..
أما في الجانب الآخر فإن مسلسل الخطط والتكتيكات الأمريكية لحماية الوضع الأمريكي داخل العراق، سواء في حال بقاء أو إنسحاب قواتها، لازال مستمراً.. وأهم ما نُشِر مؤخراً في هذا المجال هو مقال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر، هنري كيسنجر، بعنوان "الحل في العراق" (العرب الإسبوعي، 21/7/2007)، الذي يقول فيه: "تقترب الحرب في العراق من وصول نوع من الذروة التي املتها عليها سياقاتها وثمة احتمال محسوس لأن يتحرر الناس من الرقية السحرية التي تستحوذ عليهم ومن المؤكد أن الكونغرس سوف يضغط من أجل إجراء انسحاب متسارع، إن لم يكن كلياً، للقوات الأمريكية من العراق، كما يبدو من المرجح أن تتصاعد المطالبات بالتوصل إلى حل سياسي للمشكلة العراقية".. وبعد أن يبعث كيسنجر الخوف والترهيب من هذا الانسحاب الفجائي الذي سيشجع ويزيد من تطرف الإسلام الراديكالي الذي سيكون خطراً على العالم، على حد قوله، فإنه يقر بإن "من غير الممكن تحقيق نصر عسكري، بمعنى تأسيس حكومة قادرة على إنفاذ كلمتها في طول العراق وعرضه، في إطار زمني يمكن أن تتسامح معه العملية السياسية الأمريكية.."، لذلك يقر بأهمية وضع حل سياسي ضمن الواقع العراقي الماثل أمامنا.. وبإختصار فإن رؤية كيسنجر في هذا الحل تنحصر في ثلاث خطوات (على نموذج نظرية الخطوة خطوة الأمريكية الشهيرة التي جاء بها بعد حرب 1973، والتي أوصلت المنطقة للحال الذي تعيشه حالياً) وهي: أولاً: اتفاق بين الأحزاب العراقية، ويقصد الأحزاب التي تعمل مع الاحتلال والمناهضة له، وهذا ما لم يتمكّنوا من تحقيقه في دمشق في 23 يوليو/تموز الجاري، بعد أن فشل أعوان الاحتلال وبعض المخدوعين في عقد اجتماع للأحزاب العراقية رغم وصول كافة الوفود المدعوة، ووذلك بعد اكتشاف المؤامرة في آخر لحظة.. ثانياً: إقامة منتدى إقليمي، يجمع بين مصالح كل الأطراف الإقليمية وبين معالجة مخاوفهم، وهذا ما لم ولن يتمكن كيسنجر وكل دوائر ومؤسسات البيت الأبيض من تحقيقه، بعد أن انكشفت نوايا وسياسات إيران التوسعية والدموية في العراق والمنطقة بمجملها، إضافة إلى التخوف التركي القائم على سياسات الأكراد في شمال العراق.. ثالثاً: إعادة توظيف القوات الأمريكية (من قبل مؤتمر دولي) لتكون قوة تنفيذية لهذا الحل، وهنا يبدو إن كيسنجر نسى، أو يتناسى، دور المقاومة العراقية الذي ألحق الهزيمة بأكبر جيوش العالم، هذه المقاومة التي ستبقى الورقة الأولى والأخيرة في هذه المعركة، وإن رؤيته هذه بإعادة بناء الإحتلال في العراق ستواجهها خطة المقاومة التي لن تضع سلاحها قبل أن يغادر آخر جندي أمريكي أرض العراق..
بعد هذا نعيد ونؤكد بأن الورقة الحاسمة في العراق ستكون بيد المقاومة العراقية.. وسيبقى النزيف الأمريكي مفتوحاً حتى ترضخ الإدارة الأمريكية لإرادة وشروط هذه المقاومة، وحينها ستُلقى في القمامة كل الاتفاقيات الثنائية ومعاهدات المؤتمرات والمنتديات، مع الدول الجارة والشقيقة.. هذه الدول التي حتى الآن لم تتمكن من فك الأزمة الأمريكية، بل على الرغم منها ازدادت الأزمة عمقاً، وأعداد الجثث الأمريكية العائدة لأرض الوطن ارتفاعاً، والميزانية الأمريكية المفتوحة للحرب في العراق نزيفاً.. والنهاية ليست ببعيدة.